قضية السلامة الحساسة

قضية السلامة الحساسة

لا تسبب الأفلام عادة حوادث دبلوماسية. ولكن في تشرين الثاني (نوفمبر) العام الماضي، احتج سفير الجمهورية التشيكية لدى النمسا على فيلم "اليوم الأول"، وهو رواية خيالية عن الفترة التي تلي حادث نووي في Dukovany، وهو مصنع تشيكي حقيقي بالقرب من حدود النمسا. وقد صوتت النمسا عام 1978 لمنع الطاقة النووية، وعرضت قناة البث الحكومية الفيلم للاحتفال بالذكرى الثلاثين للاستفتاء. ولا يتم فقط تصوير المصنع التشيكي بوصفه خطرا على النمساويين، بل حجبت السلطات التشيكية معلومات حيوية عن جيرانها بعد الحادث.
إن خوف النمسا منذ زمن طويل من المحطات الذرية عبر الحدود يظهر السبب في كون السلامة النووية مسألة دولية. فبعد حادثة تشرنوبل عام 1986، التي نتجت عن أخطاء شركة التشغيل ونشرت الإشعاعات إلى ما وراء أوكرانيا عبر مساحات شاسعة من أوروبا، دعت الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى زيادة التعاون العالمي في قضية السلامة. وأدخلت اتفاقية السلامة النووية ومجموعة محسنة من معايير السلامة. وشكلت صناعة الطاقة النووية أيضا، بسبب خوفها على بقائها، الرابطة العالمية للمشغلين النوويين، وهو نظام من "مراجعة النظراء" الذي تقوم بموجبه شركات المرافق التي تنتمي للرابطة بالتفتيش في المحطات النووية لبعضها بعضا وتبادل المعلومات المتعلقة بالسلامة. ومعايير كل من الوكالة الدولية للطاقة الذرية والرابطة العالمية للمشغلين النوويين طوعية.
وقد أصبح سجل الصناعة النووية أفضل في مجال السلامة منذ حادثة تشرنوبل، سواء كان ذلك بسبب الحظ أو تحسين المعايير. فقد تحسن تصميم ومراقبة العديد من المفاعلات. وكان هناك الكثير من حالات التسرب وغيرها من حوادث السلامة، بما في ذلك في اليابان، وكذلك كارثة كادت أن تحدث في محطة أمريكية عام 2002، ولكن لم تحدث حوادث كبيرة أدت إلى حالات وفاة. وفي الوقت نفسه، أشارت الحكومات التي تشعر بالقلق بشأن التغير المناخي وأمن الطاقة إلى أن المحطات النووية لا تصدر ثاني أكسيد الكربون وأنه يمكن توفير المواد الخام لوقودها، وهو خام اليورانيوم، من قبل أماكن ودودة ذات سمعة جيدة مثل أستراليا.
وقد دفع هذا، إضافة إلى الارتفاع الأخير في أسعار الغاز والنفط، عديدا من الحكومات لإعادة النظر في الطاقة النووية. ففي شباط (فبراير)، أعلنت إيطاليا والسويد عن خطط للبدء في بناء مصانع مرة أخرى. وصوّت الإيطاليون للتخلي عن الطاقة النووية بعد عام من حادثة تشرنوبل، وفعل السويديون الأمر نفسه عام 1980، بعد عام من حادث مماثل في جزيرة Three Mile في بنسيلفانيا. وقد تبدأ شركات الطاقة الأمريكية في بناء مفاعلات مرة أخرى بحلول نهاية هذا العام. ومعظم المصانع التي هي قيد الإنشاء الآن، البالغ عددها 40 أو نحو ذلك، هي في آسيا (الكثير منها في الصين) أو روسيا، إلا أن هناك دولا في أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط وإفريقيا تقوم أيضا إما ببناء مفاعلات أو تخطط لذلك. ومن بين الدول التي تفكر في بناء أول مفاعلات لها، هناك تركيا والإمارات العربية، إندونيسيا، وبيلاروس.
إلا أن المخاوف العامة بشأن سلامة الطاقة النووية قد تخرجها عن مسار انتعاشها، على الأقل في الدول الأكثر ثراء وديمقراطية. وتعارض الأغلبيات في الكثير من الدول بناء مفاعلات جديدة، حيث يخشى الناس الحوادث النووية والهجمات الإرهابية والمخاطر طويلة الأجل لتخزين النفايات المشعة وتحويل الوقود النووي لتصنيع أسلحة. وحتى الآن، لم تنجح أي دولة في بناء مستودع جيولوجي دائم للنفايات النووية على مستوى عال، ولم تحصل سوى فنلندا على قبول الشعب لموقع المستودع.
وقد خففت المخاوف المتعلقة بالتغير المناخي المعارضة بعض الشيء. فوفقا لاستطلاع أجرته المفوضية الأوروبية العام الماضي، يدعم 44 في المائة من السكان في الاتحاد الأوروبي الآن بشكل عام الطاقة النووية، بعد أن كانت النسبة 37 في المائة عام 2005، فيما يعارضها 45 في المائة، بعد أن كانت النسبة 55 في المائة. ولكن في عام 2007، حين طرح مستطلعو الآراء سؤالا أكثر تفصيلا يوضح المنافع البيئية ومخاطر السلامة للطاقة النووية، قال 61 في المائة إنه يجب تخفيض حصته من سوق الطاقة. ويقول Eugene Rosa من جامعة ولاية واشنطن إنه في أمريكا أيضا، يعتمد كل شيء على هذا السؤال. ويقول نحو 80 في المائة من الأمريكيين أنهم يعتقدون أن الطاقة النووية "ستكون مصدر مهما للطاقة في المستقبل". ولكن حين سأل مسح لمؤسسة غالوب عام 2007 فيما إذا كان الناس يؤيدون توسيع استخدام الطاقة النووية، قال 50 في المائة إنهم يؤيديون ذلك فيما كان 46 في المائة معارضين لهذا.
ويختلف المدى الذي يمكن عنده للمعارضة الشعبية أن تمنع أو تلغي بناء محطات نووية جديدة بين الدول. ويقول Luis Ech?varri، المدير العام لوكالة الطاقة الوطنية التابعة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، إنه يجب أن تخضع مثل تلك المحطات للتغييرات في الحكومة وبالتالي فهي تتطلب "قاعدة سياسية واجتماعية قوية". والمسار الأسهل هو بناء مفاعلات جديدة في مواقع نووية قائمة - في أمريكا، 14 من أصل 21 طلبا لبدء البناء هي لمواقع قائمة، حيث يكون الحصول على التراخيص أسهل.
أما حكومات الدول النامية فهي أقل اهتماما بمسألة فيما إذا كان الشعب يؤيد توسيع الطاقة النووية. فالصين لديها 11 مفاعلا للطاقة النووية وتخطط لبناء 20 آخرين. وتجد الشركات من العالم الغني – مثل شركة Areva الفرنسية وشركة GE الأمريكية - أنه من الأسهل بكثير بناء محطات طاقة نووية في العالم النامي من بنائها في الوطن.
وقد يؤدي وقوع أي حادث كبير في أي مكان إلى توقف برامج الطاقة النووية في جميع أنحاء العالم. وسجل السلامة للصناعة منذ حادثة تشرنوبل يعني أن هناك خطر الرضا عن النفس، كما يقول Philippe Jamet من الوكالة الدولية للطاقة الذرية. لذا يجب اتخاذ الخطوات اللازمة لضمان أن تدير الدول الأقل تطورا مفاعلاتها بطريقة آمنة. وفي العام الماضي، أنشأت فرنسا وكالة لمساعدة القادمين الجدد على وضع قوانين نووية وإنشاء هيئات تنظيم مستقلة. ويتساءل البعض فيما إذا كان يتم تحقيق التوسع السريع للطاقة النووية في الصين بمستويات سلامة ملائمة. فقد تكون نوايا هيئة التنظيم فيها سليمة، ولكن يُقال إنها تفتقر إلى الموارد والقدرة على إنفاذ القوانين. وهناك أيضا نقص وشيك في المهندسين النوويين المؤهلين، بعد التوقف الذي دام ثلاثة عقود في بناء مصانع جديدة.
هل يجب أن تظل قواعد السلامة التي وضعتها الوكالة الدولية للطاقة الذرية طوعية؟ تتم دعوة الخبراء في الوكالة لدراسة المفاعلات النووية في جميع أنحاء العالم، وبوصفها هيئة تابعة للأمم المتحدة لها كلمتها في مجلس الأمن، فإن زياراتها مخيفة أكثر من زيارات الرابطة العالمية للمشغلين النوويين. إلا أن الحكومات هي التي تقرر المصانع التي تريد إظهارها، ووقت ذلك. وفي تشرين الثاني (نوفمبر) من العام الماضي، اقترحت المفوضية الأوروبية أن تصبح قواعد السلامة للوكالة الدولية للطاقة الذرية ملزمة قانونيا في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي. وهي تأمل أن تحذو حذوها كتل إقليمية أخرى، مثل رابطة جنوب شرق آسيا وأمريكا الجنوبية.
وقد يكون من الصعب جعل معايير الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلزامية في كل مكان. "ولكن سيصبح من الصعب على نحو متزايد ألا تدعو دولة ما لمراجعة نظراء للنظر في قضية السلامة،" كما يقول Jamet من الوكالة. وتدرس الرابطة العالمية للمشغلين النوويين أن تجعل مراجعة النظراء إلزامية لكل مصنع جديد يتم افتتاحه من قبل أحد أعضائها. والمسألة المهمة هي الكيفية التي ستؤثر بها زيادة المنافسة بين شركات الطاقة النووية في التعاون في مسألة السلامة، كما يقول Pierre Gadonneix، رئيس شركة EDF الفرنسية، أكبر مشغلة في العالم للمحطات النووية. ولكنه يضيف: "نحن على يقين أن الشفافية وتبادل المعلومات بشأن السلامة سيستمران في البيئة التنافسية الجديدة".
والمفاعل الجديد الذي يتم بناؤه في Olkiluoto في فنلندا هو أحد مفاعلين فقط قيد الإنشاء في أوروبا الغربية. فقد أصبح ذلك مرادفا للتكاليف المتزايدة وحالات التأخير. إلا أن التجربة الفنلندية مثالية من نواح أخرى، كما يقول William Buttal من جامعة كامبردج: منحت الحكومة المجتمع المحلي قدرة كبيرة على التعبير عن رأيه في اختيار موقع مستودع النفايات المشعة في Olkiluoto. وتبنت سويسرا وكندا نهجا ديمقراطيا مماثلا تجاه الطاقة النووية.
وهذا تعارض مرحب به مع السرية التي كانت تميز معظم تفاعل الصناعة النووية مع الشعب في الماضي. وقد نشأت هذه السرية في بعض الدول من الاستخدامات العسكرية للانشطار النووي. إلا أن تراث تشرنوبل وغيره من الحوادث تسبب في تغيير هذا. فإذا أرادت الصناعة الازدهار، يجب أن تمنح قضية السلامة الأهمية القصوى، حيثما يتم بناء مفاعلات جديدة.

الأكثر قراءة