الكلام للبيع
قديماً قالوا "إذا كان الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب", ولكن يبدو أن هذه المقولة أصبحت في القرن الحالي في ذمة التاريخ بعد اختراع الموبايل mobile وانتشاره بصورة سريعة غير مسبوقة في قارات العالم الست، وهو ببساطة هاتف يد خلوي دون أسلاك hand , Cellular , Wireless phone سهل الاستخدام من قبل الجميع . يطلق عليه في بعض البلدان العربية الجوال نظراً لإمكانية التجول بصحبته دائماً، وفي البعض الآخر المحمول لسهولة حمله في أي مكان وزمان.
ويختلف الموبايل عن باقي أنظمة الهواتف بكونه آلة اتصال صوتي غير ثابتة تتلقى الإرسال من محطة ثابتة تغطي مساحة كبيرة من سطح الأرض، كما يمكن من خلال الاستخدام تحقيق عديد من الخدمات الإلكترونية الأخرى كالرسائل الإلكترونية والبريد الإلكتروني والتصوير وغيرها.
كانت البداية في الولايات المتحدة حين استطاع مارتن كوبر الباحث في موتورولا Motorola اختراع نظام الهاتف الراديو, الذي أمكن تركيبه في السيارة car phone وتطويره لعديد من الاستخدامات فيما بعد .. ولقد تم تسويق هذا النظام تجاريا خارج الولايات المتحدة خاصة في اليابان والدول الإسكندنافية. ومع بداية التسعينيات من القرن الماضي استطاعت فنلندا من خلال أبحاثها عن أساليب التقنية الخلوية cellular technology تطوير شبكات حديثة للاتصالات وإنتاج جيل ثان من الهواتف الخلوية انتشرت بصورة ملحوظة في الدول الإسكندنافية والدول الأوروبية وبعض الدول ذات الدخل المرتفع والمتوسط في آسيا والأمريكتين، مع تدن واضح لنسب استخدامها في غالبية دول العالم ما يمكن أن يطلق على هذه المرحلة "مرحلة استخدام الموبايل من قبل النخبة" وهم القادرون مادياً على تحمل مصروفات هذه الخدمة المميزة .
وتشير الأرقام الواردة في تقارير البنك الدولي لعام 1999 إلى أن إجمالي المشتركين في الموبايل الهاتف الخلوي على المستوى العالمي أقل من 8 في المائة من إجمالي عدد السكان .. ومن تحليل هذه التقارير يتضح أن هناك 22 دولة على الخريطة الدولية لم تتعامل مع الاختراع حتى العام الأخير من القرن الماضي ، منها 11 دولة إفريقية جنوب الصحراء وأربع دول آسيوية، منها كوريا الشمالية، ودولة واحدة في أمريكا اللاتينية كوبا، إضافة إلى ست دول عربية وهي تحديداً سورية, العراق, السودان, موريتانيا, الصومال, وجزر القمر. كما توجد أيضاً 43 دولة لا يتجاوز عدد المشتركين في الموبايل فيها 1 في المائة من إجمالي السكان، أكثر من نصف هذا العدد في إفريقيا جنوب الصحراء وبعض دول وسط وجنوب آسيا من أبرزها الهند, باكستان, روسيا الفيدرالية, وإيران، وثلاث دول في أمريكا اللاتينية ودولتان أوربيتان ألبانيا وأرمينيا, إضافة إلى خمس دول عربية مهمة: مصر, تونس, ليبيا, الجزائر, واليمن. وفي مقابل هذه الندرة توجد وفرة واضحة في الاستخدام في دول أوروبا حيث تزيد نسبة استخدام الموبايل إلى إجمالي السكان على 60 في المائة في فنلندا أو السويد والدنمارك والنرويج وأكثر من 50 في المائة في إيطاليا والنمسا والتشيك، وأكثر من 40 في المائة في المملكة المتحدة وإيرلندا وهولندا والبرتغال. كما بلغت هذه النسبة 63 في المائة في هونج كونج ، 50 في المائة في كوريا الجنوبية، 45 في المائة في اليابان، 42 في المائة في سنغافورة. وجدير بالملاحظة أنه حتى هذا العام فإن نسبة مشتركي الموبايل إلى إجمالي السكان لم تتجاوز 31 في المائة من إجمالي السكان في الولايات المتحدة فيما بلغت النسبة 28 في المائة في الإمارات وتراوح بين 4 في المائة و17 في المائة في باقي دول مجلس التعاون الخليجي، 19 في المائة في لبنان.
ومع بداية القرن الحادي والعشرين ودخول اليابان ومجموعة نمور آسيا، والشركات الكبرى المصنعة للهواتف الخلوية مثل: "نوكيا", "سوني", "آبل", و"سامسونج" وغيرها، ازدادت شهية البشرية للكلام والانتفاع بهذه السلعة المقدمة بعد أن أصبحت في متناول الإمكانات المادية للشخص العادي، بل الفرد الفقير، ودخل الموبايل مرحلة الانتشار، وتشير أحدث التقارير الصادرة حتى عام 2008 من الجهات الدولية المعنية إلى مجموعة من الحقائق التي تتعلق بهذه السلعة التجارية التي تتداول بدرجة عالية من الانتشار يصعب تصديقها:
الحقيقة الأولى: أن هناك ازديادا ملحوظا في إجمالي مستخدمي الموبايل خلال هذه الفترة القصيرة 1999 إلى 2008, حيث بلغ هذا الإجمالي حتى حزيران (يونيو) 2008 نحو 3.7 مليار مستخدم، أي ما يعادل 55 في المائة من إجمالي سكان العالم في هذا التاريخ. وتقف الصين على رأس دول العالم وفي المرتبة الأولى حيث بلغ إجمالي المستخدمين 640 مليونا, أي 48 في المائة من إجمالي سكان الصين، يليها الاتحاد الأوروبي بإجمالي 520 مليون مستخدم.
الحقيقة الثانية: بلغت نسبة مستخدمي الموبايل في بعض الدول أكثر من 100 في المائة من إجمالي عدد السكان، أي بمعنى آخر أن هناك أكثر من موبايل في حيازة الفرد الواحد في هذه الدول. نذكر منها روسيا 121 في المائة، إيطاليا 120 في المائة ليتوانيا 139 في المائة، هونج كونج 136 في المائة, ومن الدول العربية الإمارات 130 في المائة.
الحقيقة الثالثة: صاحب الزيادة في أعداد مستخدمي الموبايل ونسبتها إلى إجمالي السكان على المستوى الدولي من 8 في المائة عام 1999 إلى 55 في المائة عام 2008، زيادة محدودة في نسبة مستخدمي الهاتف الثابت من 16 في المائة إلى 21 في المائة خلال الفترة نفسها.. ومن الملاحظ أن هذه الزيادة المحدودة تمت في الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط يقابلها ثبات أو معدل نمو سالب في الدول الغنية وذات الدخل المرتفع منها دول الشمال الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة, إضافة إلى الإمارات ولبنان من الدول العربية.
الحقيقة الرابعة: أن خدمة الموبايل أُدخلت في جميع الدول العربية اعتباراً من عام 2002 وبدرجات مختلفة من التغطية الهاتفية .. وحالياً توجد تغطية كاملة أو شبه كاملة 95 في المائة فأكثر في دول مجلس التعاون الخليجي الست ومصر ودول شمال إفريقيا، ودول أرض الشام الأربع فيما تبلغ التغطية نحو 70 في المائة في العراق واليمن والسودان والصومال والباقي من الدول العربية أقل من 30 في المائة، أما بالنسبة لعدد المشتركين إلى إجمالي السكان في كل دولة فهي تتجاوز 90 في المائة في دول مجلس التعاون الخليجي وتراوح بين أقل من 30 في المائة إلى نحو 60 في المائة في باقي الدول العربية. وجدير بالإشارة أن مصر تقع في الترتيب الـ 25 على المستوى العالمي لعدد المشتركين، حيث بلغ الإجمالي حتى نهاية 2008 نحو 42 مليون مشترك, أي 55 في المائة من إجمالي عدد السكان.
الحقيقة الخامسة والأخيرة: وهي تتعلق بالموبايل كسلعة تجارية تدر عوائد مالية لصالح الشركات العاملة في مجال الاتصالات، حيث يقدر العائد السنوي الحالي من هذه التجارة ما لا يقل عن 340 مليار دولار، يعود أكثر من نصف هذا العائد؛ 200 مليار دولار إلى الدول ذات الدخل المرتفع في الاتحاد الأوروبي واليابان ونمور آسيا وبعض دول الأمريكتين (الولايات المتحدة وكندا والبرازيل) التي تتجاوز قيمة المكالمات الدولية فيها 120 دولارا/ مشترك/ سنة ، كما أن هناك 120 مليار دولار أخرى من الدول ذات الدخل المتوسط, التي تضم في نطاقها مجموعة الدول العربية، الصين ودول جنوب ووسط آسيا، باقي دول أمريكا اللاتينية التي يبلغ متوسط قيمة المكالمات فيها 70 دولارا / مشترك/ سنة. أما باقي هذا العائد المالي نحو 20 مليار دولار فهو من الدول الفقيرة وذات الدخل المنخفض في إفريقيا وبعض دول آسيا.
وبعد هذه الرحلة الشاقة في عالم الموبايل وأسراره، أصبحت بحق القضية المعروضة ليست في امتلاك هذا الاختراع المذهل بالمعايير كافة، بل في فاتورة الحساب المستحقة عن الكلام, ما يجعلنا نتساءل:
ماذا يخبئ لنا المستقبل في مرحلة ما بعد هذا الانتشار السريع وفي وقت أصبح الشعار المعلن في عديد من الدول, غنيها وفقيرها "موبايل لكل مواطن" وتحول الكلام من مجرد خدمة إلى سلعة قابلة للبيع؟!