ثقافة وفنون

«أدب المنفى» .. رحلة البحث عن الوطن

«أدب المنفى» .. رحلة البحث عن الوطن

حضر أدب المنفى في الثقافة العربية عبر التاريخ.

«أدب المنفى» .. رحلة البحث عن الوطن

عاد الحديث، منذ مطلع الألفية الثالثة، عن "أدب المنفى"، وفرض نفسه بقوة، في العشرية الأخيرة، عقب الأحداث التي كانت دول عربية عدة مسرحا لها. إذ لعب هذا الأدب دورا محوريا في تقاسم كثيرين تجاربهم الحياتية المريرة، في الوطن وبين الأهل، أو في عالم الاغتراب والمنفى، أو بينهما خلال أطوار الرحلة، وتحوّل تدريجيا إلى قناة للبوح، يُكشف من خلالها عن معاناة الروح وجراح الذاكرة.
لم يستقر النقاد إلى اليوم، على رأي واحد بشأن التسمية، فتيار يتمسك برفض عدّ "أدب المنفى" جنسا أدبيا بالمعني الدقيق، وسنده في ذلك أن هذا الأدب يلازم حدث النفي أو واقعته، سواء كان طوعا أو كرها، فهو شبيه بأدب المقاومة أو أدب الرحلة.. ويتسع ليضم في ثناياه الأجناس الأدبية المعروفة كافة، "شعر ورواية وقصة ومسرح وسيرة وحتى اليوميات...".
السجال بشأن التسمية، لا يلغي أصالة هذا الأدب وقِدمه، فقد حضر عبر التاريخ، لدى شعوب، وفي ثقافات مختلفة، بأوصاف أخرى أساسها الابتعاد القسري عن رحاب الوطن. صحيح أن حضوره بات كثيفا، بفعل العولمة وثورة الاتصالات والمعلومات، وما يتلو لحظة مغادرة الوطن، ويرافق عملية "عبور الحدود" من تأويلات، أهي هجرة أم نفي أم لجوء.
يُذكر أن الكتّاب أطلقوا تسميات أخرى على هذا الأدب، لعل أشهرها "أدب الاغتراب" و"أدب المهجر".. وانتشرت التسمية الأخيرة على نطاق واسع، بدءا من النصف الثاني من القرن الـ19، ولا سيما أنها ارتبطت بقائمة من الشعراء المغربيين، ممن قادوا حركة التجديد في الشعر العربي "الرابطة القلمية، العصبة الأندلسية..."، لكن الفارق بيِّن بينهما، فـ"أدب المنفى" يختلف عن "أدب المهجر" اختلافا واضحا، كون الأخير حبس نفسه في الدلالة الجغرافية، فيما انفتح الأول على سائر القضايا المتصلة بموقع المنفي في العالم الذي أصبح فيه، دون أن تغيب عنه قضايا العالم الذي غادره.
انتصرت الثورة التكنولوجية من جانبها، لمصلحة "أدب المنفى" على حساب "أدب المهجر"، فالمهجر لم يعد ذاك المكان الذي تقل فيه احتمالات عودة من يذهب إليه، لأن تطور وسائل النقل والمواصلات والاتصالات عبر الأقمار الاصطناعية غيرت الظروف وبدلت الأحوال، ما انعكس بجلاء على طرق التفكير والتأويل، فلم يعد المهجر بتلك الدلالة القديمة، ولم يعد الأديب غائبا عن مجريات الأحداث في وطنه، بل أضحى رغم النفي حاضرا، بشكل أعمق وأكثر فاعلية، في الخارج. بذلك يتجسد في الساحة الأدبية، وبشكل فعلي، مفهوم "الحضور الغياب" الفلسفي الذي طرحه فلاسفة أمثال هايدجر وليفيناس ودريدا.
عربيا، حضر "أدب المنفى" في الثقافة العربية عبر التاريخ، وتجلى في حضور ثيمات الاستبعاد والخروج والهجرة، حيث تصبح لحظة النفي والنبذ علامة فاصلة في حياة الفرد أو الجماعة، لما تنطوي عليه من شرخ في سيرة الفرد مثلما في تاريخ الجماعة. فكتب أدباء وشعراء نصوصا بديعة وقصائد خالدة، تؤرخ لوشائج وعلقم هذه التجربة الإنسانية.
نذكر للمتنبي قوله "وهكذا كنت في أهلي وفي وطني/ إن النفيس غريب حيثما كانا''، ولأبي تمام قصيدة نختار منها "خليفة الخضر من يربع على وطن/ في بلدة فظهور العيس أوطاني، بالشام أهلي وبغداد الهوى/ وأنا بالرقتين وبالفسطاط إخواني، وما أظن النوى ترضى بما صنعت/ حتى تطوح بي أقصى خراسان". وقال ابن زيدون، أحد رواد هذا الجنس في الأندلس "خليلي لا فطر يسر ولا أضحى/ فما حال من أمسى مشوقا كمن أضحى؟، لئن شاقني شرق العُقاب فلم أزل/ أخص بممحوض الهوى ذلك السفحا". تطول القائمة، لتضم أسماء كبيرة، على مر الأجيال والحقب، بصمت في النثر كما في الشعر، من طينة أبي حيان التوحيدي وأبي فراس الحمداني والمعتمد بن عباد وأحمد شوقي وعلال الفاسي وطه حسين...
يُعد إدوارد سعيد المفكر الفلسطيني صاحب تأصيل بديع في "أدب المنفى"، بدءا من سيرته الذاتية "خارج المكان" (1999) التي يحمل عنوانها أكثر من دلالة على النفي والاغتراب، وصولا إلى كتاب "تأملات حول المنفى" (2000)، الذي يتطرق فيه سعيد إلى بواعث النفي وآثاره بقوله "النفي لا يقتصر معناه على قضاء أعوام يضرب فيها المرء في الشعاب هائما على وجهه، بعيدا عن أسرته وعن الديار التي ألفها، بل يعني إلى حد ما أن يصبح منبوذا إلى الأبد، محروما على الدوام من الإحساس بأنه في وطنه، فهو يعيش في بيئة غريبة، لا يعزيه شيء عن فقدان الماضي، ولا يقل ما يشعر به من مرارة إزاء الحاضر والمستقبل".
وكان المنفى آخر كتابات الشاعر الفلسطيني محمود درويش، أربعة أشهر قبل رحيله، في مقالة في المجلة الثقافية "عدد نسيان (أبريل) 2008"، فكتب بروح متفلسفة عن المنفى "هكذا يضخم المنفي جماليات بلاده، ويضفي عليها صفات الفردوس المفقود. وحيث ينظر إلى التاريخ بغضب لا يتساءل: هل أنا ابن التاريخ، أم ضحيته فقط؟ يحدث ذلك عندما يكون المنفى إجباريا "..."، وهناك منفى اختياري، حيث يبحث المنفي عن شروط حياة أخرى.. عن أفق جديد، أو عن حالة من العزلة والتأمل، واختبار قدرة الذات على المغامرة والخروج من ذاتها إلى المجهول، والانخراط في التجربة الإنسانية، باعتبار الوجود الإنساني كله شكلا من أشكال المنفى".
يبدو أن نبوءة درويش تتحقق راهنا، بفضل الثورة الرقمية، وهذا ما كشفت عنه أعمال إبداعية لمبدعين معاصرين، فتجربة تخطي الحدود لم تعد شرطا للنفي، فما أكثر المنفيين داخل الوطن، وما أكثر المغتربين في حضرة الوطن، أو بتعبير الشاعر "الوطن ليس دوما في الوطن، والمنفي ليس دائما في المنفي".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون