تحية إلى البدوي من الحجاز
أرسل لي البدوي من الحجاز (كما لقب نفسه) من خيمته على ملتقى جبال الحجاز مع صحراء نجد، وتمنيت أن أكون معه أراقب النجوم، كما فعل إبراهيم لما جن عليه الليل فقال: أحب السماء والنجوم، ولكن لا أحب الآفلين، فما زال في ذلك الجدل الخفي، بين الكوكب والقمر والشمس متنقلا، حتى وصل إلى اليقين الكوني؛ فقال إني أسلمت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا، وما أنا من المشركين، فحاجّه قومه؟
قال الفاضل في تعليقه على موضوع الثقة الذي كتبته سابقا: ما رأيك في ما ورثناه من الأمثال التي تؤكد على جانب الحذر وعدم الإفراط في الثقة مثل " حسن الظن ورطة , وسوء الظن عصمة "و " من مأمنه يؤتى الحذر "؟
وجوابي اقتبسه من اثنين: المثل الألماني وابن خلدون.
فأما المثل الألماني فهو كما عنونا به البحث، أن الثقة جيدة، ولكن ما هو أجود منها المراقبة، يقول الألمانVertrauen ist gut Kontrolle ist besser.
ويقولون إنه منحول من لينين الزعيم الثوري، الذي بلغ منه الريب مبلغ إعدام أقرب الناس إليه، ولحقه ستالين بذلك، فأرسل ـ كما كان يفعل أبو مسلم الخراساني ـ إلى الموت 800 ألف فقط من أوكرانيا. ويقولون إن سبب انهيار الجيش الأحمر أمام الزحف النازي في الحرب العالمية الثانية، كان أحد مسبباته تصفية الجيش الروسي من خيرة عناصره، على يد ستالين و(بيريا) رئيس الاستخبارات سيئا الذكر؟ وبلغ من الريبة وسوء الظن أن تكشيرة من الرفيق ستالين كانت تجعل صاحبها يرجف بقية عمره هلعا.
ومن الألمان استفدنا دروسا عملية ممتازة، وهي في قسمٍ منها إحياء مفاهيم موجودة عندنا في الإسلام، ولكنها ماتت بكل أسف، مثل أي طفل تعب له أبوه في ثروة فبعثرها؟
ومن أعجبها موضوع النظافة العامة، فحدائقنا مزابل، ودورات مياهنا كوارث، يرتعب منها الحيوان، كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة، فلا يدخل إليها البهيم فضلا عن الإنسان، ولا يسكنها إلا البعوض وسموم القوارض والهوام، مع كل حرص البلدية على النظافة، لأن المشكلة ثقافة عامة. وحيث أسكن في حي الملقا في شمال الرياض، اجتهدت البلدية أن تعمل للناس حديقة ممتازة للتنزه والجلوس والمشي، فيتحول لون الخضرة فيها إلى بياض من القذارات والمخلفات، بما يذكر بقرود عسير؟ والأبشع بقايا البزر حيث تصبح الحديقة الخضراء كلسية اللون، ومعها مخاطر انتشار الأوبئة؟ وأعترف أنني حينما ذهبت إلى ألمانيا لم أكن بهذه الحدة في الموضوع، حتى وقعت لي واقعة علمتني أن أغير طريق حياتي، فقد ألقيت ورقة على الأرض فاندفع الألماني (راينهاردت) ـ وأنا معه ـ لالتقاط الورقة من الأرض، وكانت درسا لا يتكرر، ومن يومها لا ألقي شيئا، ولو في الصحراء الممتدة حتى لا ألوث جمالها؛ فجمال المحيط الأخضر أو الأصفر متشابهان، وأضع كيسا خاصا داخل السيارة فاتخذوها عادة؟
وأما ابن خلدون فقد عقد فصلا على طريقته المعرفية، فقال كيف تميز وتختار؟ الأمين غير الحاذق؟ أم الحرامي المتقن؟
ويقول إن التقي ترجع تقواه إلى نفسه، أما من يحسن الإنجاز فعلينا، وكل ما نحتاج إليه أن نفتح أعيننا أن لا يسرقنا اللص، ونأخذ منه عملا منجزا، والقضية تحتاج إلى توسيع، ولكن خلاصتها أن خير من استأجرت القوي الأمين، كما قالت تلك الفتاة الموهوبة، التي أعجبها موسى عليه السلام بإنجازه وشبابه، ففازت بقلبه زوجا.
تحياتي للبدوي في الحجاز، ليته يدعوني إلى خيمته؛ فأسبح الله عنده ليلة أو ليلتين، وأتأمل الملكوت إذا جن علي الليل؛ فلعل الله يذيقني شيئا من يقين إبراهيم.