ثقافة وفنون

مساهمة أبناء الجزيرة العربية في حفر قناة السويس

مساهمة أبناء الجزيرة العربية في حفر قناة السويس

كان حفر قناة السويس حدثا تجاريا وسياسيا عالميا (غيتي).

مساهمة أبناء الجزيرة العربية في حفر قناة السويس

حفل افتتاح قناة السويس عام 1869 (غيتي).

مساهمة أبناء الجزيرة العربية في حفر قناة السويس

صورة نادرة لأعمال حفر قناة السويس قبل 150 عاما (غيتي)

ليس مستحيلا وصل البحرين الأحمر والأبيض المتوسط، فالإرادة تصنع المعجزات وتغير مجرى الأحداث في حياة مليارات البشر، فكيف إذاً في إنجاز بحجم قناة السويس، ولعل من يقلب صفحات التاريخ، يندهش حينما يعلم أن أبناء الجزيرة العربية أسهموا في حفر هذا الشريان الحيوي، قبل أكثر من 150 عاما.
وإن كانت قناة السويس فصلت قارتي آسيا وإفريقيا، إلا أنها نجحت في ربط العالم، الذي ترقب لحظة بلحظة الانفراجة التي تلت تعويم ناقلة عملاقة محملة بـ200 طن، جنحت في عرض القناة فأغلقتها طيلة أسبوع، وسدت بذلك شريانا حيويا أثر بتبعاته في سلاسل الإمداد وأسعار الشحن والنفط، وتبعات اقتصادية أخرى باهظة الثمن.

توفير 15 يوما

مصر حلقة وصل بين الشرق والغرب، وموقعها الجغرافي الاستراتيجي دفع إلى التفكير في إقامة ممر مائي اصطناعي لربط البحر الأحمر بشقيقه الأبيض المتوسط، يسهل حركة التنقل، ويوفر 15 يوما على الأقل في رحلة السفينة إذا ما قطعتها عبر طريق رأس الرجاء الصالح، جنوب القارة الإفريقية.
كان الفرنسيون أول من فكر جديا في توصيل البحرين من خلال قناة مائية، حينما أتوا إلى مصر في العامين الأخيرين من القرن الـ18، لكنهم لم ينجحوا في ذلك، وظنوا أن مستوى أحد البحرين أعلى من مستوى الآخر، فضلا عن انشغالهم بالدفاع عن وجودهم في البلاد.
وفي مرحلة لاحقة من تاريخ مصر، حصلت شركة فرنسية على امتياز حفر وتشغيل القناة 99 عاما، حيث بدأت أعمال حفر ممر مائي اصطناعي بطول 193 كيلو مترا في عام 1859، فيما فتحت القناة للملاحة العالمية في 17 نوفمبر 1869.
وبحسب كتاب "افتتاح قناة السويس.. رحلة الملوك" من تأليف جيستاف نيقول وماريوس فونتان، فإن الأيام الأربعة الأولى من افتتاح القناة صدر بشأنها إعلان رسمي بإعفاء السفن التجارية والدولية من الرسوم، وأقيم احتفال ضخم شهده ملوك ورؤساء وسفراء العالم إيذانا بافتتاح قناة السويس.

مليون مصري

في عملية جريئة ومعقدة، استغرق الحفر نحو عشرة أعوام، سبقتها أربعة أعوام من الدراسات والأشغال التمهيدية، شارك فيها أكثر من نحو مليون مصري، قضى منهم نحو 120 ألفا، بحسب مصادر تاريخية متفرقة.
وعلى ذمة كتاب "السخرة في حفر قناة السويس"، لمؤلفه الدكتور عبدالعزيز محمد الشناوي، الذي قضى أعواما يفحص وثائق وأوراق القناة في قصر عابدين، تغطي فترة من حكم الملك فاروق حتى قيام ثورة يوليو 1952، وتمكن إثر ذلك من نيل درجتي الماجستير والدكتوراه، وأصدر الكتاب في عام 1958، فإن إحدى أخطر المشكلات التي صادفت تنفيذ القناة قلة مياه الشرب، إذ لقي بعض العمال حتفهم عطشا، ما اضطر الشركة المنفذة إلى شق ترعة للمياه العذبة طولها 45 كيلو مترا، أسهم في حفرها ثلاثة آلاف عامل، كما تفشى أثناء حفرها عدد من الأوبئة والأمراض المميتة بين العمال، كما يروي التاريخ.
وتحدث الكتاب الواقع في نحو 400 صفحة عن آلاف الأجانب الذين عملوا في أعمال حفر القناة، منهم نحو ألفي سوري نزحوا إلى مصر لحفر قناة السويس، وذلك في عام 1861، لكن الشركة القائمة على الأعمال توقفت عن استقدام السوريين تخلصا من عبء النفقات التي كانت تتحملها في سفرهم وأجورهم العالية مقارنة بأجور المصريين.
ورغم قسوة الظروف، إلا أن القناة أصبحت لاعبا رئيسا في حركة التجارة العالمية المنقولة بحرا، فبحسب هيئة قناة السويس، يعبر من خلال القناة نحو 25 في المائة من إجمالي حركة البضائع عالميا، و100 في المائة من إجمالي تجارة الحاويات المنقولة بحرا بين آسيا وأوروبا، ويعبرها سنويا نحو 18 ألف سفينة.

ألا يمكن عمل قناة في نجد؟

عودة إلى جانبها التاريخي، يروي تشارلز دوتي الرحالة الإنجليزي مشاهداته في كتابه "ترحال في صحراء الجزيرة العربية"، الصادر بالإنجليزية والمترجم إلى العربية، جانبا من روايات سعوديين عملوا في حفر قناة السويس، بعد أن عاش في صحراء الجزيرة العربية من 1876، ومكث عدة أعوام، متنقلا بين مدائن صالح والعلا وتيماء وحائل وبريدة وعنيزة، ثم إلى خيبر والطائف وجدة، وسجل خلال رحلته وصفا دقيقا للحياة البدوية، وقال بعدما تعرف على شاب يدعى إبراهيم "كان إبراهيم واحدا من النجديين الشرقيين الكثيرين الذين ذهبوا قبل أعوام عدة للعمل نظير أجر في حفر قناة السويس، يعتقد إبراهيم أن 200 من رجال القصيم كانوا يمارسون هذا العمل في حفر القناة"، وقال أيضا "إنه سبق له أن شاهد في هذا المشروع فرنسيين وإيطاليين ويونانيين، وكان يظن أنهم يتكلمون لغة واحدة".
وفي توصيف لقسوة العمل في السويس، يضيف دوتي نقلا عن صديقه إبراهيم، "إنه شاهد بعض الطرود التي كانت ترسل من قناة السويس على عناوين الحانوتيين، كما تمعن في عمل المرأة الافرنجية"، وتفكر أيضا - على حد قوله - "في المرأة الرجل، التي تحمل مسدسا تعلقه في وسطها، وتقوم بدور الريس الذي يشرف على العمال أثناء أدائهم عملهم، حيث كان هناك جمع كبير من أمم مختلفة، خليط من الرجال المعسرين والمحتاجين، مسلمين ومسيحيين".
ويعلق مترجم الكتاب حول ذلك على هامش النص، بأنه واضح من السياق أن "العمل في حفر قناة السويس لم يكن قاصرا على المصريين وحدهم، إنما هناك عديد من العناصر التي شاركت في هذا العمل من الجزيرة العربية وشعوب البحر المتوسط".
ويكمل دوتي في حديثه، ناقلا الحكايات والنكات عن السويس التي عمل فيها ابن الجزيرة العربية، وحول التعايش بين العمال من مختلف الديانات، وفضلا عن صعوبة التجربة كما يروي، "إلا أنه عاد ثريا بمبلغ يراوح بين مائة و200 ريال". وعلى الرغم من أنه لم يكن فقيرا أو محتاجا في بلده، إلا أنه قطع مسافة 700 ميل كي يعمل حفارا في السويس، وقد قال بعض سكان نجد "ألا يمكن عمل قناة مثل هذه القناة عبر نجد؟"، كانوا يظنون أن مثل هذه القناة ستكون لمصلحة بلدهم.

نقلوا المياه عبر الصحراء

في رسالة عفوية ووثيقة تاريخية، أفرج عنها أحد محبي التراث، فإن عددا من أبناء قبيلة غامد سافروا إلى مصر للمشاركة في حفر قناة السويس، وفي الرسالة التي يعود تاريخها إلى عام 1864 يكتب الشاب مساعد إلى والده عن مرض الكوليرا الذي أهلك كثيرين هناك.
كتبت الرسالة بعد 27 يوما من وصول مساعد إلى السويس، ويعزو مؤرخون سفر مساعد وأقرانه إلى حب قبيلة غامد للسفر والبحث عن الرزق في أسفارهم، حيث ورد في الرسالة مفردة "الرزق راهي" وهو تعبير عن وفرة الرزق.
كما كشف في رسالته عن وفاة أصدقائه سعيد الحبانية وبشيتي ولد ابن سفرة، وجاءت الرسالة بلهجة عامية، مؤرخة في غرة مولد ربيع الأول 1281هـ.
وفي تأكيد آخر على ذلك، يقول الدكتور عبدالله الغذامي "إن قريبه من آل الفياض، واسمه محمد الريس، شارك في حفر قناة السويس مع آخرين من أبناء الجزيرة العربية"، كما أكد في مقال سابق مشاركة أسلاف له من أهله وأقاربه في حفر القناة، وكانت قصصهم تروى في مجالس الأهل.
وفي كتابه "القبيلة والقبائلية أو هويات ما بعد الحداثة"، يذكر الغذامي كذلك "أن لنا أجدادا كدحوا بأيديهم في حفر قناة السويس جنبا إلى جنب مع المصريين، تجمع بينهم سحنة الجلد ودافع الإنسان ليكون حيا وفعالا وصاحب خيار ذاتي"، منوها بأن تلك قصص واقعية تحكيها وترصدها سجلات بعض العائلات في القصيم عن أجدادهم وحكايات الأجداد.
وفي استشهاد آخر على مشاركة السعوديين في حفر قناة السويس، يوثق الإنجليزي ديفيد هوجارث في كتابه المعروف "اختراق الجزيرة العربية" أن "أهل القصيم كانوا يشكلون أغلبية العمال الذين كانوا يعملون في حفر قناة السويس"، في إشارة إلى الأعداد الكبيرة للمشاركين من الأجانب في عمليات الحفر.
وقد زاد عدد من الكتب حول تاريخ العقيلات، بأنهم كانوا يشرفون على العمال، ويعملون أيضا على جلب الماء على ظهور الإبل عبر الصحراء الجرداء من دمياط ومحطة بورسعيد لتحلية المياه المالحة.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون