ثقافة وفنون

رحلة التطعيم من الشرق إلى الغرب

رحلة التطعيم من الشرق إلى الغرب

تربط جل الكتابات التاريخية التلقيح بالطبيب البريطاني إدوارد جينز (1749-1823).

يتسابق الأفراد للظفر بنصيبهم من التلقيح ضد فيروس كورونا، قصد تأمين الحماية من داء، شل مظاهر الحياة على وجه البسيطة، على مدار عام كامل. ولا يزال حتى الآن يتحرش، بين الفينة والأخرى، بدولة هنا وشعب هناك، فارضا على الدول المتأخرة في حملات التلقيح، فسح المجال أمام كل الاحتمالات، قصد محاصرة وتطويق الوباء.
أضحى التلقيح إذًا صمام أمان، يخول الأفراد والجماعات إمكانية استئناف حياتهم بشكل طبيعي، بعيدا عن القيود والتدابير الاحترازية التي فُرضت للوقاية من الفيروس. فما أصول التلقيح؟ وكيف بدأت هذه الفكرة الثورية في تاريخ البشرية؟ ومن له الفضل في ابتكار التطعيم الذي شكل منعطفا نوعيا في مسيرة التطور الإنساني؟ وكيف كان تلقي الأفراد والجماعات للفكرة في بداياتها الأولى؟
يربط جل الكتابات التاريخية التلقيح بإدوارد جينز الطبيب البريطاني (1749-1823)، صاحب لقب "أبو علم المناعة"، نظير اكتشافه عام 1798 لقاحا ضد مرض الجدري، الذي قتل حينها 10 في المائة من السكان، ونحو ضعف النسبة في المدن والبلدات، حيث انتشرت العدوى بسهولة أكبر، حتى إن مؤرخي تلك الحقبة تحدثوا، بانبهار وإعجاب، عن "ثورة التلقيح". صحة هذا الوصف لا تتعدى النطاق الأوروبي فقط، بالنظر إلى قدم وأصالة ممارسة التطعيم لدى شعوب وأمم أخرى، في أصقاع الأرض.
من باب الإنصاف، نقول إن عملية تطوير وانتشار التطعيم تمت بشكل أساسي في القرن الـ20، لكن أوليات الفكرة انبثقت في القارة الآسيوية لدى قبائل الهند، فقد اهتدى القوم إلى هذا الابتكار العجيب، في أواسط القرن السادس الميلادي. ففي كتاب "قصة الحضارة"، تحديدا فصل "العلم الهندي"، لويل ديورانت مؤرخ الحضارات، يشير إلى أن "الهند عرفت التطعيم منذ عام 550، مع أن أوروبا لم تعرفه إلا في القرن الـ18"، ويضيف، في معرض التأصيل، أن "الصينيين استخدموا اللقاح في معالجة الجُدري، وإن كانوا لم يستخدموا التطعيم للوقاية منه، ولعلهم أخذوا هذا عن الهند".
انتقل فن التطعيم، على غرار الأعداد البسيطة والكسور العشرية وأشياء أخرى، من الهند إلى أوروبا بواسطة العرب، ممن كان لهم باع طويلة في ثقافة الترياق. إذ يتحدث ابن سينا في كتاب "القانون في الطب" عن إمكانية اكتساب المناعة، بأخذ ما يسبب المرض والأذى. وسرد أبو العباس ابن أبي أصيبعة في "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" قصصا واقعية لعلاج السموم، بمكونات تستخلص من مصدر تلك السموم نفسها.
وذهب أسامة زيد وهبة الصيادي في كتابه "أهم الاختراعات والاكتشافات في تاريخ الإنسانية" (2011) إلى تأكيد تلك الأقاويل، عادّا الأطباء العرب يتبعون الطب الوقائي في الأمراض المعدية، فقد اهتدوا إلى صناعة نوع من التطعيم ضد الجدري، عن طريق بثور من مريض، يطعم بها الشخص السليم، بفركها جيدا على راحة اليد أو إحداث خدش في مكانها، وهي فكرة التطعيم نفسها التي تزعم أوروبا احتكار حقوق اختراعها.
بعيدا عن هذه الخبرة المرصودة لدى العرب في مجال الطب، نجد الفكرة ذات ملامح في التداول الأدبي، تحديدا في مجال الشعر، في وقت سابق عن التطبيق الطبي. فهذا أبو نواس يقول "دع عنك لومي فإن اللوم إغراء / وداوني بالتي كانت هي الداء"، أما أبو الطيب المتنبي فقد أوشك على التنبؤ بالمبدأ الذي قام عليه التطعيم في الطب، بقوله "لعل عتبك محمود عواقبه / فربما صحت الأجساد بالعلل".
في الوقت الذي انتشر فيه الإقبال على تلقيح الأبدان، وقاية لها من الأوبئة المحدقة بها، في ربوع الإيالات العثمانية، بطرق وأساليب متنوعة، حتى بات مألوفا لدى العوام والخاصة. وقد تحدث ويل ديورانت عن أن النساء الشركسيات، يقمن بوخز الأجساد بإبر مست بسوائل الجدري، قصد الوقاية من المرض. وتطلب الأمر إصدار فتوى عن شيخ ابن معمر التميمي، الفقيه الحنبلي الذي عدّ التطعيم أو التداوي قبل نزول الداء، أي العلاج الوقائي، مكروها، معللا ذلك بأن صاحبه يستعجل به البلاء قبل نزوله، فربما يكون ذلك سببا في موته، فيكون الفاعل قد أعان على قتل نفسه، كمن أكل فوق الشبع فمات بسبب ذلك، فهذا وجه الكراهة الشرعية في ممارسة التطعيم.
تعيش أوروبا على وقع الرفض الشعبي والرسمي للتطعيم، فقد امتدت المعارك طيلة قرن، بين أقلية شاهدت بأم عينها فاعلية ونجاعة العملية في البلاد الإسلامية، وأكثرية ترفض الاقتناع بفكرة الطب العلاجي. وكان رجال الدين، داخل المملكة المتحدة البريطانية، في طليعة المناهضين للتطعيم، بدعوى أنه اعتراض على الإرادة الإلهية التي أوقعت المرض، لا بل إن المرض عقاب على الخطيئة. أما في فرنسا، فقد تعاون رجال العلم ورجال السياسة على الأمر، حيث اعترضت جامعة باريس "كلية الطب" ومعها البرلمان الفرنسي على إجراء التطعيم فوق التراب الفرنسي.
وحتى بعد توارد الأخبار عن تجارب مشجعة داخل بريطانيا، لم يكن للبلاط قناعته الكاملة، فاهتدى بغية التأكيد إلى تجريبه على المساجين، فقد اتخذ المساجين والأيتام حقلا لاختبار نجاح التجربة، بعدما وافقت الأميرة كارولين، عام 1741 على تجريب التطعيم على ستة مجرمين حُكم عليهم بالإعدام، شريطة أن يُفرج عنهم إن ظلوا أحياء، وهو ما كان لاحقا، إذ لم يصب أحد بأذى. وحتى بعد اقتناع الدولة بنفعية التطعيم، وإصدار البرلمان البريطاني مرسوما يقضي بإلزامية التلقيح للأطفال، فقد خرج المحتجون في مظاهرات ضد القرار، حاملين رايات وتابوت طفل، في إشارة إلى أن التلقيح يقتل.
تقدم قصة التطعيم صورة عن واقع الأحوال في الشرق والغرب قبل قرون، وكيف انقلب الأمر إلى النقيض تماما، مع حرص العقل الغربي على فرض المركزية الغربية، من خلال نسبة كل شيء إليه، باستئصال الأفكار وحصر كل البدايات في إقلاعه الحضاري. فكم قرأنا وسمعنا حديث علماء الصحة والطب عن أن التطعيم واحد من أرقى الإنجازات العشرة للصحة العامة في القرن الـ20، دون أدنى إشارة، ولو همسا، إلى الجذور التاريخية لفكرة التلقيح.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون