ثقافة وفنون

الانتظار .. فلسفة حياة تصل المكان بالزمان

الانتظار .. فلسفة حياة تصل المكان بالزمان

من ثمار الثورة الصناعة القتل التدريجي لثقافة الانتظار في النفوس.

الانتظار .. فلسفة حياة تصل المكان بالزمان

اختزال الحياة في بعدها المادي الصرف يكشف عن رؤية محدودة وقاصرة.

الانتظار موقف نعيشه كل يوم في حياتنا، سواء أكان الانتظار في طوابير طويلة، أم كان انتظارا من أجل لقاء، أو قصد ركوب حافلة يبدو أنها لن تصل أبدا.. لحظات تتراوح كيفية تلقيها من فرد إلى آخر، فهذا يغضب وينزعج من الوقت الضائع، وذاك ينشرح وينبسط وهو يعيش اللحظة، ما يجعل الأمر في البدء والمنتهى مرتبطا بعامل نفسي.
إن الانتظار ليس مجرد لحظات يقضيها المرء في محطة قطار سيقلك في أي لحظة، أو كرسيا في قاعة الاستقبال تنتظر عليه دورك المحتوم، بل هو فلسفة حياة وطريقة تفكير. يشير الانتظار إلى الشعور بأن زمن الحاضر غير مكتف وغير كاف، غير مكتف بذاته، وغير كاف لذاته. وقد يتعدى الأمر مجرد شعور نحو امتلاك السلطة، فحسب المؤرخ يوهانس فنسنت كنيشت "من يجعل الآخرين ينتظرون تكون لديه سلطة عليهم".
تعد كلوديا بيبل، مؤلفة كتاب "فن الانتظار" (2019)، سياق وحيثيات الانتظار غالبا ما يجعلان المرء يشعر وكأنه متحكم فيه. وتربط ذلك في المقام الأول بالمكان، حيث تقول "إن عديدا من غرف الانتظار هي صلة بين المكان والزمان.. هذه الغرف تم تصميمها بشكل غير ملائم، وهذا سبب آخر يزيد من مضاعفة تداعيات الانتظار".
ينعقد الإجماع على أن "الانتظار هو وقت ضائع"، ومعادلة العصر تقضي بأن الإنسان يتقاضى المال مقابل الوقت، خاصة بعد انتشار مقولة الرئيس الأمريكي بنجامين فرانكلين "الوقت هو المال"، حتى أصبحت عقيدة العصر الصناعي. لذا لا عجب أن يكون لمفهوم الانتظار دلالات سلبية، فالزمن وفق التجربة الجماعية في الثقافة الغربية يعادل المال.
كان العمل المأجور، من الناحية التاريخية، العامل المباشر في جعل الفرد أكثر إدراكا للوقت وأهميته، وأن فكرة ارتباط الوقت بالمال ليست من الأفكار المنتشرة عالميا، إلا أنها مرتبطة بنوعية العمل والأشخاص الذين نعمل معهم، وطريقة تعامل الناس مع الوقت على أساس يومي لا علاقة له بطريقة إدراكهم له كقيمة مطلقة.
لقد وضعت حائحة كورونا هذه المقولة على محك الاختبار، عقب الاستئناف التدريجي للحياة، حيث عملت الإنسانية على تعويض الانتظارية القاتلة، طيلة أسابيع الحجر، واستدراك ما فاتها من الزمن أو بالأحرى من المال، دون أن تعي خطورة قاعدة "الزمن هو المال" التي حكمت حركتها، منذ الثورة الصناعية إلى اليوم.
يكتنف هذه المعادلة استخفاف كبير بعقل الإنسان، فالكسب ليس سوى فعل واحد من أفعال الإنسان في الزمن. واختزال الحياة في بعدها المادي الصرف يكشف عن رؤية محدودة وقاصرة، تجعلها مرهونة بشكل مطلق بفعل الكسب وحده. والحال أن الزمن أشياء أخرى، فالزمن عبادة، والزمن عائلة، والزمن رياضة، والزمن تأمل، والزمن صحة...
تعد تجربة الوقت في الثقافات الأخرى مختلفة تماما، ما وسع دائرة المجالات التي لم تصب بفكرة "الوقت هو المال". وأسهم في تباين ردود الفعل تجاه لحظة الانتظار، ففجأة قد يتحول المرء، في العالم الغربي، وهو ينتظر طائرة متأخرة عن موعدها أو ينظر إلى طاولة فارغة في مطعم، إلى كائن غاضب وعدواني، فهو لا يعد الانتظار هدية للوقت، وبدلا من الاستمتاع بها، فإنها تصبح نوعا من التعذيب.
حاول روبرت ليفين عالم النفس الاجتماعي، بمعية فريق من الباحثين، من جامعة كاليفورنيا، دراسة الثقافات من نافذة الزمن، فعمد إلى دراسة الوقت في عديد من الثقافات، حيث توقف من خلال الأجوبة المقدمة له عند الأمور الغالية التي تخص مختلف الثقافات، كما حصل على قدر من المعلومات، ساعده على معرفة ترتيب الأولويات لدى هذه الشعوب. ليخلص إلى أن نظام الزمن يختلف لدى جميع دول العالم، لذا علينا جميعا فهم نظرة كل شعب إلى الوقت وأهميته، قصد معرفة كيفية التعامل معهم، فالثقافات بكل بساطة لديها قيم مختلفة.
شملت دراسة ليفين التي تعود إلى حقبة التسعينيات، بشأن "إيقاع الحياة" 31 دولة، واعتمدت ثلاثة مؤشرات عند دراستها عنصر الزمن، لدى شعوب هذه الدول. أولا، سرعة السير على الطريق، ثانيا، زمن توفير الطابع البريدي الاعتيادي من دوائر البريد، ودقة الساعات العامة في الدولة. استنادا إلى هذه المتغيرات، بوأت الدراسة ريادة قائمة أسرع خمس دول، لكل من: سويسرا، إيرلندا، ألمانيا، اليابان، وإيطاليا. فيما شملت أبطأ خمس دول كلا من: سورية، السلفادور، البرازيل، إندونيسيا، والمكسيك.
تختلف ثقافة التعاطي مع الزمن من مجتمع إلى آخر، فإذا تأخرت لساعة عن موعدك في دولة في أمريكا اللاتينية أو القارة الإفريقية، فذاك لا يعني مطلقا أنك لم تحترم من دعاك، ما دمت قد أجبت الدعوة، دون أي اعتبار لمعطى التأخير الزمني. أما إذا تأخرت فقط خمس أو عشر دقائق في بريطانيا أو السويد، فأنت مطالب بالاعتذار أولا، ثم شرح أسباب تأخيرك بعد ذلك. يظهر هذا الأمر نظرة الاختلاف بين الدول، وطريقة تعامل الثقافات مع هذا الزمن، ومن خلاله تدبير الانتظار، فهذا الأخير يعكس رؤية هذا المجتمع أو تلك الأمة تجاه ذاتها.
صحيح أن من ثمار الثورة الصناعة القتل التدريجي لفكرة وثقافة الانتظار في النفوس ولدى الشعوب، بربط كل دقيقة زمنية بمردودها الذي يقاس بالمال. وقد نجحت إلى حد بعيد في تحقيق ذلك، حتى بدا الانتظار فعلا مذموما لدى الصغار قبل الكبار. قبل أن تهب رياح كورونا، فتعيد إلى الواجهة الأسئلة الإنسانية الكبرى، بعدما كانت نسيا منسيا، ومنها سؤال الزمن الذي قامت بتعطيله، مفسحة المجال للتفكير فيه خارج الإطار المألوف.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون