ما بعد ترمب .. الولايات المتحدة وجها لوجه أمام مرآة الحقيقة
يغادر الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بعد غد البيت الأبيض، لينضم بذلك إلى قائمة الرؤساء الأمريكيين الراسبين في اختبار الولاية الثانية، التي تضم كلا من جون آدامز وجون كوينسي آدامز ومارتن فان بورين وويليام هوارد تافت وهربرت هوفر وجيرالد فورد وجورج بوش الأب. بعدما سجل لنفسه سابقة تاريخية، تتعلق بكونه الرئيس الوحيد في تاريخ أمريكا المهدد مرتين بالمحاكمة، بعدما صوت مجلس النواب، يوم الأربعاء الماضي، على اتهام الرئيس بـ"تحريض مؤيديه على العصيان"، ما أدى إلى اقتحامهم مبنى الكابيتول، يوم 6 كانون الثاني (يناير) الجاري.
اختلفت التقديرات حيال فترة حكم ترمب إلى حد كبير، بين من ربط حصيلة الأعوام الأربعة بشخصية الرئيس المتمردة على قواعد وأعراف النسق السياسي التقليدي، في الولايات المتحدة الأمريكية، ومن رأى فيما حدث تغيرا في استراتيجية الإدارة الأمريكية، حيال إدارة وتدبير الأوضاع على الصعيد العالمي. ويبقى الثابت، في كل هذا وذاك، أن ولاية الرئيس ترمب شكلت منعطفا حاسما، إيجابا أو سلبا بحسب زاوية النظر، في التاريخ الحديث للولايات المتحدة الأمريكية.
بعيدا عن قواعد الإتيكيت ولباقة رجال السياسة، وضع دونالد ترمب الولايات المتحدة الأمريكية وجها لوجه أمام مرآة الحقيقة، مستخدما لغة واضحة ومباشرة وبسيطة، تفهمها شرائح المجتمع الأمريكي كافة، دون الحاجة إلى وساطات رجال الإعلام، فخاطب أمريكا والعالم معا، باسطا الحقائق بشكل غير مسبوق، فعيب أمريكا من منظور ترمب أنها تنتصر في الحرب، وتنهزم فيما بعد الحرب، فقد انتصرت في الحرب العالمية الثانية، وأهدت انتصارها إلى ألمانيا واليابان اللتين تحولتا إلى قوتين اقتصاديتين، بفضل الولايات المتحدة الأمريكية، كذلك الأمر في الحرب الباردة، انتصرت واستفادت القوى الناهضة من هذا الانتصار، خاصة الصين.
عمِل الرجل على تصحيح معلومات غير دقيقة للرأي العام الأمريكي والعالمي، من قبيل السردية القائلة إن ما في مصلحة الولايات المتحدة هو في مصلحة العالم. دأب الرؤساء الأمريكيون على الترويج لهذه النظرة الرومانسية، خاصة مع ويلسون وروزفلت، وسعى كلينتون من بعدهم إلى إحيائها. يعاكس ترمب التيار مؤكدا أن ما هو في مصلحة أمريكا لن يكون بالضرورة ما هو في مصلحة العالم.
لذا رفع شعار "أمريكا أولا"، فالعولمة أو "أمركة العالم" من وجهة نظر ترمب، لم تكن مطلقا لمصلحة أمريكا، فقد كانت السبب وراء نقل مناصب الشغل إلى الصين والهند وأمريكا اللاتينية. دفاعا عن تلك المصلحة، يتخذ إجراءات حمائية من أجل الشركات والمواطنين الأمريكيين. صحيح أن هذا الخطاب ليس بالجديد، فقد سبق لروس بيرو المرشح المستقل أن نادى به في انتخابات عام 1992، لكن ترمب فرضه بقوة مستغلا سياق التحولات العالمية، وتحديدا ما بعد الأزمة الاقتصادية لعام 2008.
إن جذور السياسة التي ينهجها ترمب على الصعيد الدولي ضاربة بعمق في التاريخ، فأصولها تعود إلى ما قبل عام 1945، حيث كانت أمريكا تحدد مصالحها ضمن نطاق ضيق، ولا سيما فيما يتعلق بالنقد والأمن. صحيح أنها تبنت القيم الليبرالية، لكن تطبيقها كان انتقائيا، على الصعيدين الداخلي والخارجي على حد سواء، ولم تدخل في تحالفات باستثناء التحالف مع فرنسا خلال الحرب الثورية. وكانت تعريفاتها الجمركية، ضمن خانة التعريفات الأعلى في العالم.
يعتقد كثير من المراقبين أن مغادرة ترمب المكتب البيضاوي، تبشر باستعادة الولايات المتحدة الأمريكية دورها في ريادة العالم، وانتعاش أركان النظام الليبرالي الدولي. يبدو هذا التفاؤل في غير محله، فعصر الهيمنة الليبرالية للولايات المتحدة ما هو إلا إحدى التبعات الفورية للحرب الباردة. وعلى النقيض، كان نهج ترمب من معاملة المثل بالمثل، في السياسة الخارجية عرفا سائدا في معظم فترات التاريخ الأمريكي، ما يفيد بأن بصمة ترمب ستدوم إلى وقت طويل بعد رحيله.
لا يعدو ترمب سوى أن يكون عنوان مرحلة مفصلية في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، بحسب المفكر الاستراتيجي الأمريكي هنري كيسنجر، حيث عد في أحد حواراته أن "ترمب وجه من الوجوه التاريخية التي تظهر بين الفينة والأخرى، لترسم نهاية مرحلة، ويلزمها التخلي عن مرتكزاتها القديمة. ليس معناه أنه يعي ذلك، أو أنه يمثل حلا جيدا بديلا. فقد لا يكون إلا حادثة".
سيغادر ترمب "الرجل" السلطة، لكن ترمب "المشروع" سيواصل الحفر وسط المجتمع الأمريكي، بعد أن يتحول إلى لافتة تلتقي في ظلها كل الحركات اليمينية، ممن يعتقدون بالتفوق العرقي، ويؤمنون بواجب حماية الأصول المسيحية لأمريكا، ويرون في الملونين والمهاجرين تهديدا، ويعتقدون أن النيوليبرالية سرقت منهم الدولة، وأن النظام العالمي الجديد بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية مجرد وهم.
لا أحد بمقدوره حاليا التنبؤ بمستقبل التحول الذي دخلته الولايات المتحدة الأمريكية، منذ وصول ترمب إلى الحكم حتى مغادرته، لكنها قطعا ولاية فاصلة في التاريخ، فأمريكا ما قبل ترمب حتما ليست ذاتها أمريكا ما بعد ترمب. مهما حاول خبراء الاستراتيجية ومنظروها "قراءة فنجان" النظام العالمي القادم، بناء على ما تشكل من معطيات ومؤشرات، ستبقى محاولاتهم قاصرة عن تحديد معالم اللوحة التي نعيش فصول رسمها، فتداخل وتركيب الألوان يعقد مهمة استيضاح المشهد العالمي العام.
صفوة القول، إن أجوبة قطعية من قبيل التبشير بعودة للديمقراطية أو التحذير من انتعاش للسلطوية، وإعلان الانعزالية خيار المستقبل نظير التهليل باستعادة الليبرالية، وغيرها من الأقاويل التي تحاصرنا، لا تعدو أن تكون رجما بالغيب، في لحظة مخاض عالمي عسير، عصي على التوصيف والتشخيص، وبالأحرى التوقع والتقدير.