الفرنكوفونية والأنجلوساكسونية .. صراع الديمقراطيات الإفريقية المستوردة

الفرنكوفونية والأنجلوساكسونية .. صراع الديمقراطيات الإفريقية المستوردة
تفاوت ملحوظ بين متوسط ​​عمر السكان أقل من 20 عاما، وحكم قادة افريقيا الذين تزيد أعمارهم عن 60 عاما.

تعد ظاهرة الانتخابات الحرة والتعددية راسخة في الأعراف السياسية الإفريقية، منذ التحول الديمقراطي للقارة، قبل 30 عاما، حيث تم إجراء ما يقرب من 600 انتخاب، رئاسية وتشريعية ومحلية في جميع أنحاء القارة، بحسب ما جاء في تقرير للفرنسي بيير جاكيمو عن التطورات الديمقراطية في "إفريقيا "1960 - 2020".
وكان عام 2020 عاما انتخابيا بامتياز في إفريقيا، حيث شهدت جل دول القارة انتخابات محلية أو برلمانية أو رئاسية، وسط توترات أمنية ومتاعب اقتصادية، واختراق قوي لجائحة كورونا. كل ذلك لم يحل دون إجراء معظم الدول الانتخابات في موعدها. فعلى مدار العام نُظمت، على سبيل المثال، عشرة استحقاقات رئاسية من أصل 11 كانت مقررة. حرص شديد على التقيد بالمواعيد، قد يوحي بتشبع الحكام الأفارقة بقيم الديمقراطية، والاتجاه نحو إقامة قطيعة مع الصراع والاضطراب السياسي الذي طبع القارة، منذ ستينيات القرن الماضي.
كشف مسار الانتخابات في بعض الدول، أن حقائق الواقع عكس ذلك تماما. فقد أدى حرص قادة أفارقة على البقاء في السلطة، إلى إفقاد الممارسة الديمقراطية ركيزة أساسية، تتمثل في الانضباط لقاعدة التداول السلمي على السلطة. خرقا لتلك القاعدة، لم يتردد عدد من الحكام الذين تجاوزوا مدة حكمهم، في القيام بممارسات غير قانونية، لضمان بقائهم في السلطة، من خلال التأثير في الهيئات المشرفة على الانتخابات "المحكمة العليا أو لجان الانتخاب"، أو عن طريق ملاحقة ومنع رموز المعارضة من المشاركة في الانتخابات، أو عبر تعديل الدساتير المعمول بها، رغم أنف المعارضة السياسية والاحتجاجات الشعبية.
يعلق جاكيمو على هذه الأوضاع، مؤكدا أن الانتخابات في إفريقيا موروثة من الغرب، لكن بعد تكييفها مع الحقائق السياسية والاجتماعية للقارة، لا يتوقع أن تؤدي تلقائيا إلى مزيد من الديمقراطية. مذكرا، في هذا السياق، بتصريح الرئيس الغابوني الراحل عمر بونغو "نحن لا ننظم الانتخابات لنخسرها"، حين علق على هزيمة ماتيو كيريكو في دولة بنين، الذي يعكس رؤية إفريقية معينة، سائدة في أوساط الطبقة السياسية، حيال العملية الانتخابية.
تفسر هذه الرؤية، في الوقت الراهن، كثيرا من نتائج رئاسيات هذا العام، إذ تكشف إطلالة سريعة على الاستحقاقات بقاء كثير من الوجوه، في رأس الحكم في دول القارة السمراء، بعد أن تحول أصحابها إلى رؤساء معمرين، يرفضون التخلي عن السلطة. ففي شهر تشرين الأول (أكتوبر)، تمكن الرئيسان الغيني ألفا كوندي والإيفواري حسن واتار من الظفر بولاية رئاسية ثالثة، وقبلهما بأشهر قليلة، فاز فور غناسينغبي بولاية رابعة في جمهورية التوغو، هذه الدولة الصغيرة في غرب إفريقيا، المحكومة، من قبل آل غناسينغبي، منذ عام 1967.
سيناريو "الانقلابات الدستورية" - بتعبير البريطاني تشيزمان - ليس الأمر الجديد لدى القادة الأفارقة، فقد كان سببا لدخول سبعة زعماء خانة أطول الرؤساء حكما، على الصعيد العالمي. فتعديل الدستور كان خيار رئيس غينيا الاستوائية تيودورو أوبيانغ نغويما، حاكم الدولة منذ عام 1979. وعلى النهج ذاته، سار الأوغندي يوري موسيفيني، بعد أن راجع الدستور مرتين، إحداهما لإسقاط البند الذي يحدد سن مرشحي الرئاسة، والأخرى لإلغاء تعديل سابق لتحديد الفترة الرئاسية بولايتين، ليمهد الطريق أمامه للترشح في انتخابات العام المقبل. وبفضله بقي رئيس تشاد إدريس ديبي في الحكم لثلاثة عقود، منذ انقلاب عام 1990. وشهدت ناميبيا مع الرئيس سام نجوما - أول رئيس إفريقي ينتخب ديمقراطيا خلال عقد التسعينيات - ردة ديمقراطية بعدما مدد الرئيس لنفسه لفترة رئاسية ثالثة.
انعكست هذه الأساليب على مؤشر الديمقراطية في القارة السمراء، حيث تدنى تقييم العملية الانتخابية والتعددية إلى حدود 4.26 درجة، مع تسجيل ملاحظة فريدة، وفق المؤشر ذاته، مفادها تسجيل تفاوت كبير في الفارق العمري بين القيادة والشعب داخل الدولة، فلا توجد قارة أخرى فيها مثل هذا "التفاوت بين متوسط ​​عمر السكان أقل من 20 عاما، وحكم قادتها الذين تزيد أعمارهم على 60 عاما".
كما كشف بوضوح الفارق الكبير بين إفريقيا الفرنكوفونية وإفريقيا الأنجلوساكسونية، فالكفة من حيث النضج الديمقراطي والشفافية الانتخابية تميل إلى ترجيح تقدم الدول الناطقة باللغة الإنجليزية على الدول الناطقة بالفرنسية. ففي هذه الأخيرة، تعد عمليات الاحتيال على الدستور والتلاعب القانوني أثناء الانتخابات الرئاسية كثيرة، لدرجة بات فيها استخدام الدستور لأغراض شخصية من "إفريقيا الفرنسية".
عموما، يمكن القول إن نحو 15 دولة من أصل 54 في القارة، شهدت تناوبا سياسيا، يوشك أن يصبح تحولا ديمقراطيا حقيقيا. فعدد من الدول "النيجر، الرأس الأخضر، موريشيوس، السنغال، غانا..." تشهد ديمقراطية انتخابية ناضجة، فالتناوب الذي يعد معيارا للديمقراطية التمثيلية، لا يعد مجرد كلمة جوفاء، إنما عرف أصيل في الثقافة السياسية داخل الدول، حيث أضحى الاعتراف بالنتائج الرسمية جزءا من آداب الانتخابات العادية.
لقد صارت الانقلابات التي كانت منتشرة في إفريقيا، في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، أثرا من الماضي. فقد شهدت القارة في الأعوام الخمسة الأخيرة تزايدا في أعداد عمليات الانتقال السلمي للسلطة "ليبيريا وغانا وسيراليون وليبيريا...". وكان ذلك من ثمار تحرك الاتحاد الإفريقي لقطع الطريق أمام الانقلابات العسكرية، بعد إقراره جملة آليات ترمي إلى حماية القادة الأفارقة، وتبقي الجنود في الثكنات بعيدا عن السياسة.
التحرك ذاته مطلوب اليوم، لحماية مسار الديمقراطية في إفريقيا، من خلال وقف مسلسل "الانقلابات الدستورية". تغيير لن تستطيع المؤسسات الإفريقية ولا حتى الدولية القيام به، إذ يبقى رهين التغيير في العقليات وتعبئة المواطنين في العمل عبر القارة، بجيل جديد من جماعات الضغط، يستغل الفراغات التي تركتها أو أهملتها المؤسسات السياسية التقليدية.

الأكثر قراءة