ثقافة وفنون

رواج التفكير الخرافي في زمن تباطؤ العلم

رواج التفكير الخرافي في زمن تباطؤ العلم

"لا شيء أيسر من خداع النفس، فما يرغب فيه كل إنسان فهو أيضا يعتقد أنه حق".

أعادت جائحة كورونا بث الروح في الفكر الخرافي، بعد انكسار درع العلم والتكنولوجيا على أعتاب هذا الوباء، فقد شهد العالم بأسره حالة خروج من العقلانية نحو اللا منطق، من خلال الاستعانة بمحمولات التراث الشعبي، طلبا للأجوبة. لحظة تحول فيها العلم من درع يحتمي به الأفراد، إلى فقاعة ضخمة شديدة الهشاشة، سرعان ما انفجرت وتبددت، بعد استعانة الأفراد والجماعات بوصفات الأجداد للنجاة من الوباء المتربص بهم.
عودة التفكير الخرافي في زمن كورونا رافقه استغلال لما توفره شبكة الإنترنت من امتيازات، أسهمت في الانتشار السريع للخرافة، بعد أن كانت بنت بيتها، بالانحصار في طقوس وعادات محدودة من الناحية الجغرافية. اكتست مع كورونا طابعا عالميا، أشبه ما يكون بعولمة للخرافة، بعدما أضحت طقوس وعادات الشعوب والأمم مبسوطة أمام أنظار العالم، يحاولون تجريبها واختبارها، لعلهم يهتدون إلى علاج يفك طلاسم وباء، أوقف مظاهر الحياة في العالم.
فرضت الهرولة إلى عوالم التفكير الخرافي، في زمن الذكاء الاصطناعي والنانو تكنولوجي، التساؤل عن قدرة الإنسان المعاصر على قبول هذه الأفكار والتفسيرات عند التعاطي مع مسألة علمية، فيروس كورونا في هذه الحالة، قيد الدراسة والتحليل. لن يعدم هذا السؤال جوابا حين نتذكر قول أحدهم بأن "تجارتان لا تعرفان البوار: تجارة الخبز وتجارة الوهم".
يحظى التفكير الخرافي بجاذبية هائلة، فمهما تقدم العلم فستحتفظ الخرافة بأعز الأمكنة في قلوب البشر، وأعمق الأغوار في أنفسهم. ويجد ذلك تفسيره بكل بساطة، في كونها الأصل، فهي "العلم" الأقدم الذي منح الإنسان أجوبة على استفساراته على مر التاريخ. قد يكون هذا المنطق جائزا في لحظات الضعف وأزمنة العجز، لكنه قطعا لم يعد ذلك حاليا، إذ لا يجوز للإنسان اليوم، بعد أن فك طلاسم الطبيعة، وأمسك بقرون الظواهر، أن يقتنع بالوهم والخرافة في عصر العلم.
كانت وظيفة الخرافة، ولا تزال عبر التاريخ، تفسير الوجود حيث لا تفسير، والتأثير فيه حيث لا تأثير. لقد كان الإنسان في عالم مبهم غير مكترث، وكان عليه أن يبتكر شيئا يفسر به ما يجري حوله، فاهتدى إلى الفكر الخرافي سبيلا لفهم هذا الوجود الملغز، وتأويل هذا العالم الغريب، الذي لا يفصح عن نفسه. وبلغ به الأمر درجة القدرة على اصطفاف وتراص المتناقضات داخل ذهنه، في وئام وسلم دون أدنى شعور بالنقص أو التضارب. كان بوسع الإنسان الأول أن يقدم جنبا إلى جنب أوصافا متباينة لظواهر متماثلة، ويقبلها بكل بساطة حتى إن استلزم الواحد نفي الآخر.
تذهب مدرسة التحليل النفسي إلى اعتبار الخرافة جزءا من التكوين النفسي للإنسان، لذا ظل الفكر الخرافي يعايش العلم ردحا من الزمن، ولعله لا يزال يخامره إلى يومنا هذا. فقد عاشت البشرية أمدا طويلا، وهي حائرة بين الخرافة والعلم، لأن الخط الفاصل بينهما لم يكن واضحا. وحدث أن سقط الأفراد عبر التاريخ ضحايا خرافة مغلفة بقالب العلم، أو ما يوصف بـ"العلم الزائف" الذي يدنو من الخرافة بقدر ابتعاده عن العلم.
يدعى علاج "مرهم السلاح"، المنتشر في القرن الـ17 بأنه مرهم خاص بتركيبة معقدة، من عناصر يصعب الحصول عليها، تعطي مفعولا خاصا متى اتبعت وصفتها بدقة. والعجيب حقا في أمر هذا الدواء أنه لا يهتم بالجرح، بل بوضع السلاح الذي أحدثه. والأعجب أن فرانسيس بيكون أبو التجريب العلمي الحديث اقتنع به، بالطريقة نفسها التي يقتنع بها كثيرون في هذا الزمن، بممارسات تبدو غاية في الغرابة، بعد أن شاهد فعالية العلاج، ليس على الإنسان فقط بل حتى على الحيوان، ما يعني إسقاط عامل الإيحاء. قبل أن يتضح أن الخطوة الأولى من البروتوكول التي أغفلها الجميع، تفرض تنظيف الجرج بعناية وتضميده، وكان "مرهم السلاح" سابقا من حيث التاريخ على نظرية الجراثيم.
على الشاكلة ذاتها، انتشرت في ستينيات القرن الماضي، بين العلماء في الأوساط السوفياتية، تقارير صادة من مختبرات روسية، تزعم اكتشاف حالة فيزيائية للماء، إلى جانب الحالات المعروفة "السائلة والغازية والمتجمدة"، لكن توالي الاختبارات والاختبارات المضادة بين أن الأمر لا يتعلق بحالة جديدة، بقدر ما هو تلوث لحق بأجزاء من المختبر فأعطى تلك النتائج "العلمية" الغريبة.
اعتقد الناس ردحا من الزمن بأن ركوب القطار يسبب الاختناق والجنون، فالزعم السائد حينها، قبل اختراع السكك الحديدية، يفيد بأن حركة مركبة بسرعة تفوق 30 ميلا في الساعة، ستعرضهم للاختناق، بفعل الهواء المتدفق، وانتشرت هذه الأفكار عن القطارات، حتى اعتقد كثيرون بأن الحركات الصارخة والضوضاء، من شأنها أن تدفع الناس إلى الجنون، وانتشرت أخبار في النصف الثاني من القرن الـ19 عن مجانين السكك الحديدية، وامتلأت المجلات الطبية بالتفاصيل حول سلوكيات ركاب القطارات، وأعراض معرفة مجانين السكك الحديدية، قبل أن يتحول الأمر إلى مجرد خرافة.
ترافق قراءة هذه الأسطر ابتسامة خفيفة على محيا كثر منكم، من حجم السذاجة والأوهام التي قبلت الإنسانية بالتعايش معها. لكن هذا لا ينبغي أن يسقط من أذهانها أن الحكمة تصل دائما بعد الحفل. صحيح أننا نضحك من الممارسات الزائفة التي خدعت الأجيال الماضية، ونراها مهازل تستوجب الضحك، بعد معرفة وكشف تأويلها، لكن كثيرين من بيننا يقعون في السلالات المعدلة للخرافات ذاتها.
يضرب الفكر الخرافي بالجذور في أعماق البشر، بحيث يصعب اجتثاثه، حتى في عصر العلم، لدى شرائح كثيرة في المجتمع، بما فيها أعلى الفئات تعليما. فما أكثر من يميلون نحو القبول باعتقادات مريحة، تسائل المستوى العلمي للمقتنعين بها، وحتى قدراتهم العقلية أحيانا، من قبيل التصديق بإمكانية الشفاء دون إحداث ألم، ودون انتظار ودون جهد، أو الاقتناع بأن المعرفة والموهبة والخبرة يمكن اكتسابها بشكل آني، وبطرائق سرية، لا تتطلب تضحية ولا مجهودا.. وغيرها من الأوهام التي عبر عنها الفيلسوف ديموسثينس قائلا "لا شيء أيسر من خداع النفس، فما يرغب فيه كل إنسان فهو أيضا يعتقد أنه حق".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون