«بريكست» .. خروج آمن بخسائر متبادلة

«بريكست» .. خروج آمن بخسائر متبادلة

«بريكست» .. خروج آمن بخسائر متبادلة
صار على كل بريطاني يرغب في البقاء بدولة عضو في الاتحاد لأكثر من 90 يوما وجوب الحصول على تأشيرة.

توقفت بريطانيا عن تطبيق قواعد الاتحاد الأوروبي ساعة قبل منتصف ليل آخر يوم من العام الماضي، وشرعت في تطبيق إجراءات جديدة على الأصعدة كافة "التجارة والسفر والهجرة والتعاون الأمني..."، بعد انتهاء الفترة الانتقالية لـ"بريكست"، وإقرار النواب البريطانيين الاتفاق التجاري بين لندن وبروكسل، يتجنب فرض ضرائب استيراد "تعريفات جمركية" بعد خروج بريطانيا من السوق الداخلية للاتحاد الأوروبي والاتحاد الجمركي. إنجاز عدّه رئيس الوزراء "فصلا جديدا في قصة بريطانيا الوطنية"، فالمملكة أصبحت - بحسب بوريس جونسون - تملك "حريتها في يديها، وتسيطر على مصيرها القومي، ويجب أن تستفيد منها إلى أقصى حد".
جاء توقيع الاتفاق في اللحظات الأخيرة، بعد مفاوضات ماراثونية بين الجانبين، لضمان تأمين عملية الخروج الأخيرة من الاتحاد، وفق بنود وتفاصيل كثيرة في نقاط جمعتها 1500 صفحة لم يرشح منها الشيء الكثير، نتيجة التأخر في الوصول إلى الاتفاق، لتظل التكهنات سيدة الموقف حيال حيثيات الاتفاقية، ولمصلحة من سترجح الكفة، رغم أن توقيعها يعني توصل الطرفين إلى نقاط مشتركة تحقق مصالحهما، بأدنى قدر من الخسائر، دون استبعاد حدوث تنازل بريطاني معين، لضيق الوقت ولحسابات أخرى.
لا شك أن تلك الخسائر المحتملة أو المتوقعة دفعت المملكة المتحدة إلى تقديم نفسها نصيرة التجارة الحرة، طيلة مسلسل المفاوضات، حيث عملت بالتوازي مع إجراءات التحلل من قيود والتزامات الاتحاد الأوروبي، على توقيع اتفاقيات تجارية مع 62 دولة "اليابان وسنغافورة والمكسيك وكينيا والمغرب وتركيا..."، ومددت في معظمها الترتيبات السارية في إطار الاتحاد الأوروبي، مع بقاء المباحثات مع الولايات المتحدة دون نتيجة ملموسة.
خسائر المملكة المتحدة
ودع البريطانيون ليلة الخميس الماضي رسميا الاتحاد الأوروبي، بعد نصف قرن من الاندماج فيه، وأربعة أعوام ونصف من التفاوض الطويل. حمل هذا الوداع في طياته جملة من المتغيرات، وجب على البريطانيين الاستعداد للخضوع لها، بدءا من أول يوم من العام الجاري.
ينهي الاتفاق حرية تنقل الأشخاص بين بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي، وتستبدل بنظام الهجرة "القائم على النقط" من جانب بريطانيا، وصار على كل بريطاني يرغب في البقاء في دولة عضو في الاتحاد لأكثر من 90 يوما، في فترة مدتها 180 يوما، وجوب الحصول على تأشيرة من تلك الدولة. في المقابل، سيواجه مواطنو الاتحاد الأوروبي الراغبون في الانتقال إلى المملكة المتحدة - باستثناء مواطني جمهورية إيرلندا - بالنظام القائم على النقاط نفسه مثل الأشخاص في أي مكان آخر في العالم. في غضون ذلك، سيحتاج المسافرون من بريطانيا إلى الإعلان عن مبلغ نقدي قدره عشرة آلاف يورو "9049 جنيها استرلينيا" أو أكثر عند دخول إيرلندا الشمالية.
التعاون الأمني سيهتز، حيث ستفقد الشرطة البريطانية إمكانية الوصول الفوري إلى قواعد بيانات الأشخاص في الاتحاد الأوروبي، فيما يتعلق بالسجلات الجنائية وبصمات الأصابع والأشخاص المطلوبين جنائيا، فالاتفاق يؤسس إطار عمل جديدا، لإنفاذ القانون والتعاون القضائي في المسائل الجنائية وتلك المرتبطة بالقانون المدني. وتشدد بروكسل على إمكانية "تعليق التعاون الأمني في حال حدوث انتهاكات من جانب المملكة المتحدة لالتزاماتها فيما يتعلق بمواصلة الامتثال إلى الميثاق الأوروبي لحقوق الإنسان".
غادرت بريطانيا الاتحاد الجمركي الأوروبي والسوق الموحدة، ما يعني أن الأعمال التجارية ستواجه سلسلة قيود جديدة على الواردات والصادرات عبر المانش. فالاتفاق الموقع لا يعترف سوى بخطة "التاجر الموثوق"، من أجل تخفيف القيود البيروقراطية، دون أن يفصح عن حدود تطبيق ذلك. كما سيعود التسوق المعفى من الرسوم الجمركية، حيث يستطيع الأشخاص العائدون إلى بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إحضار بعض المقتنيات، دون دفع ضرائب على المنتجات. عموما، سيتعين على التجار في إنجلترا واسكتلندا وويلز إنهاء مزيد من الإجراءات الورقية، فتقديرات رابطة النقل البري تفيد بأن 220 مليون استمارة جديدة ستحتاج إلى الملء سنويا، للسماح بتدفق التجارة عند التعامل مع دول الاتحاد الأوروبي.
فقد الأعضاء البريطانيون في البرلمان الأوروبي، البالغ عددهم 73 عضوا، مقاعدهم بشكل تلقائي، بعد مغادرة المملكة جميع المؤسسات والكيانات السياسية في الاتحاد الأوروبي. على الرغم من استمرار لندن في اتباع قواعد الاتحاد الأوروبي، خلال الفترة الانتقالية، واحتفاظ محكمة العدل الأوروبية بحق الفصل في النزاعات القانونية.
رسائل إلى أوروبا
جاءت أولى رسائل توقيع الاتفاق من اسكتلندا، فبمجرد الإعلان عن التوصل إلى اتفاق الخروج، صرحت نيكولا ستورجن رئيسة الوزراء بأن الوقت حان لتصبح اسكتلندا دولة أوروبية مستقلة، وأضافت بأن "بريكست" يتحقق عكس إرادة شعب اسكتلندا"، بعد أن صوت الاسكتلنديون بنسبة 62 في المائة ضد الخروج من الاتحاد الأوروبي. نتيجة تستند إليها رئيسة الوزراء لبث رسالتها مجددا إلى بروكسل، بقولها "إن الوقت حان لنرسم مستقبلنا الخاص كدولة أوروبية مستقلة"، مؤكدة تعلقها بالحلم "اسكتلندا ستعود قريبا يا أوروبا.. أبقي النور مضاء".
سعت لندن إلى حفظ ماء الوجه بتسجيل نقط سياسية، دلالات رمزية، على دول الاتحاد الأوروبي. فخلال جولات المباحثات حتى لحظة توقيع الاتفاق النهائي، حضرت تركيا، مع ما يحمله هذا الحضور من رمزية الصراع بين أنقرة والاتحاد، عبر التقارب مع بريطانيا، من خلال الإعلان عن اتفاقية للتجارة الحرة بين الدولتين، يحدد إطار مرحلة ما بعد الخروج في خطوة أثارت موجة من تساؤلات عن الأسباب والتأثيرات ودلالة التوقيت.
لا يمكن إغفال البعد السياسي في هذا الاتفاق، الذي عدّه الجانب التركي "أهم اتفاق منذ اتفاق الاتحاد الجمركي مع الاتحاد الأوروبي"، الذي يعود تاريخ توقيعه إلى عام 1995. فكلتا الدولتين تعاني صدامات مختلفة مع أوروبا، ما دفعهما - بحسب مراقبين - إلى استغلال ذلك في سبيل تحقيق اختراقات سياسية وإعلامية. واتضح أكثر إصرار رئيس الوزراء البريطاني على تحرير بلاده من سيطرة أوروبا بزعمه، ومنحها حرية ما تريد، ليكون أول ما قام به تحقيق الاتفاق التجاري مع أنقرة المشاكسة في أوروبا.
كانت بريطانيا قبل ذلك، وتحديدا شهر تشرين الأول (أكتوبر) 2019، قد وقعت اتفاقية شراكة مع المغرب لسد الفراغ القانوني المترتب عن انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي أولا، ولضمان متنفس يحول دون حصار منطقة جبل طارق، الإقليم الإسباني المستعمر بريطانيا، ما يفيد بأن الحرب الصامتة بين لندن وبروكسل مستمرة، منذ قرار الخروج، فكل طرف يحرص على استغلال أي فرص لمصلحته.
بعيدا عن هذا الصراع، تذهب التقديرات إلى أن الخسارة من نصيب الطرفين، فخلال عام 2020 من المتوقع أن ينخفض الناتج المحلي الإجمالي لمنطقة اليورو بنسبة 7,8 في المائة، مقارنة بانخفاض تصل نسبته إلى 11,3 في المائة في المملكة المتحدة.

الأكثر قراءة