رجل المستقبل المستمد من الماضي

رجل المستقبل المستمد من الماضي

كانت جملة "مستقبل المجتمع" هي آخر جملة في الكتاب الذي أصدره بيتر دراكر في عام 1999 "تحديات الإدارة في القرن الـ 21"، وكان المستقبل دائماً هو الطفل المدلل لبيتر دراكر.
ولكن الكثيرين يكتبون ويفكرون بالمستقبل، إلا أنه لا يوجد أي مؤلف إدارة آخر مارس تأثيراً على فكرنا مثل دراكر. فماذا يميزه؟ بماذا يختلف عن الكثيرين؟ إن فرضيتي هي أن دراكر يفسر المستقبل بأسلوب فريد من نوعه، لأنه رجل الماضي.. وسألت الأستاذ دراكر ذات مرة ما إذا كان يرى نفسه مؤلفا تاريخيا أو مفكر إدارة. وأجاب دون أن يتردد طويلاً " أقرب ما يكون لمؤلف تاريخي". وقبل ذلك بقليل قرأت في مذكراته أموراً تختطفنا من عالم غارق إلى منبع حالي. وهناك شخص آخر مشهور من فينا، هو المؤلف اشتيفان تسفايج (1881 – 1942)، وهو يسمى الدنيا "عالم الأمس".
والمحيط الذي ولد فيه بيتر دراكر وترعرع فيه كان فريداً من نوعه. وفي الطبقة العليا للإمبراطورية النمساوية – المجرية كان كل من التعليم والثقافة، والفن، والموسيقى، والوعي التاريخي، والتحضر، إضافة إلى الانفتاح العالمي، أموراً في قمة قيم النظام . ومثل هذه الشعارات تصف تلك الفترة في فينا بشكل غير متكامل، ومن يريد أن يتحسس هذا العالم بشكل أعمق، عليه قراءة كتاب دراكر: "مغامرات متوقف ثانوي"، وكتاب اشتيفان تسافيج"عالم الأمس". وكان من البديهي أن الأطفال الذين ولدوا في طبقات متعلمة أن ينشأوا متحدثين بلغات عديدة، حيث إن تربيتهم تمت على أيدي مربيات إنجليزيات وفرنسيات. وأكثر ما يقنع هنا هو أن هذا العالم ينعكس في التفكير الذي جلبنه معهن، وسيرة حياتهن الذاتية التي تثبت الأمور العجيبة في شخصية بيتر دراكر .
إن اختفاء الإمبراطورية النمساوية – الهنغارية في عام 1918، وظهور الحركة البلشفية في روسيا، والعهد النازي في ألمانيا كما سمّاها اشتيفان تسفايج " بالاهتزازات البركانية لأرضنا الأوروبية"، كانت اقتلعت جيلاً كاملاً، ولكنه أنجز إبداعاً ضخماً أيضا.ً وهاجر تسفايج بداية إلى إنجلترا من أجل الهجرة إلى البرازيل فيما بعد. وكتب الفيلسوف كارل بوتر الذي ولد في عام 1902 في فينا، أهم مؤلفاته" المجتمع المفتوح وأعداؤه" خلال الحرب العالمية الثانية في منفاه في نيوزيلندا، وعاد مرة أخرى إلى إنجلترا فيما بعد. كما أن عالم الرياضيات جون فون نويمان- الذي يعود الفضل له في نظريات الكمبيوتر، ذهب من بودابست عبر ألمانيا باتجاه برنستون، وأما المؤلف الفيلسوف إليانس كانيتي، فشق طريقه إلى إنجلترا، وفيما بعد إلى سويسرا. وأما الصحفي العلمي آرثر كوستلر المولود في بودابست، فاجتاز حياة بلا استقرار في كل من إسرائيل، وألمانيا، وروسيا، وفرنسا، وإسبانيا، وأخيراً في إنجلترا. وفي السنة ذاتها كما هو الأمر لدراكر، ولد إرنست جومرنيش في فينا. ومن إنجلترا حصل على سمعة عالية كعالم بتاريخ الفنون. كما أن عالم الاجتماع المولود في برسلاو، نوبرت إلياس، يمكن للمرء أن يضعه في عداد هذه المجموعة، وكانت محطات حياته باريس، ولندن، وأمستردام، وبيليفيلد في ألمانيا، التي فيها تمكنت من التعرف عليه، وهو لا يزال في سن الخامسة والتسعين . وهناك كارول فويتيلا الذي ولد في كراكوف المعروف بالبابا يوحنا بولوس الثاني، إذ إنه طفل هذه الأرض الثقافية المثمرة.
وفي طرق الحياة الاستثنائية هذه، رتب بيتر دراكر نفسه دون ربط بين فينا، هامبورج، فرانكفورت،إنجلترا، وأمريكا. وأطلقت إمبراطورية الدانوب سراح أبنائها الذين أنجزوا بعيداً عن وطنهم أشياء، وتركوا آثاراً دائمة خلدتهم في الإرث الثقافي للإنسانية . والواقع أن كتاب "عالم الأمس" قدمهم على أفضل وجه، وبكل وضوح. وتبقى مؤلفاتهم صدى لثقافة من نوع فريد. ولكن هذا هو فقط الشيء الظاهري والإطار العام. ولدى كل فرد على حدة تتوجه الصفات والخصال المميزة بشكل أعمق. ولأنه يعرف التاريخ كالقليل من الآخرين فقط، ويفهم تفسيره، يمكن لبيتر دراكر أن يلقي ضوءاً على المستقبل الذي هو بالنسبة إليه نوع مميز وغريب. وكان هو دائماً وأبداً يؤثر في من خلال المعارف التفصيلية التي يملكها والثقافة الشاملة التي تتوفر فيه، حيث كان يدرك تماماً كيفية الترابطات غير العادية للمجتمعات.
وهناك بعض التعايشات والمقارنات التي يمكن أن تعطي شهادة على ذلك. وتأثرت للغاية عندما قرأت أن الفيلسوف المشهور آرثر شوبن هاور تعلم اللغة الإسبانية من أجل أن يتمكن من قراءة الكتاب الذي يحمل عنوان "فن المخابرات العالمي" للإسباني بالتهزار جراسيان. وفيما بعد أجريت مراسلاتي مع بيتر دراكر حول هذا الكتاب، وعلمت بأن جراسيان كان معروفاً له بشكل أفضل. وكتب دراكر" أعطاني إياه كهدية قبل 72 عاماً، عندما غادرت فينا في طريقي إلى هامبورغ. وبعد شهرين من ذلك اكتشفت كيركيجارد (فيلسوف دانماركي)، وأصبح الاثنان قطب حياتي. وبسبب جراسيان، تعلمت اللغة الإسبانية بما فيه الكفاية من أجل قراءته بالنسخة الأصلية، وأيضاً اللغة الدانماركية بما فيه الكفاية، من أجل قراءة كيكيجارد بالنسخة الأصلية".
إن العالم صغير، وحول جوانبه تمتد شخصيات كبيرة وتتقاطع دروبهم بعضها مع بعض. ووجد دراكر نفسه مراراً في اللحظة الصحيحة في مثل هذه التقاطعات. وتضاف أيضا كفاءة أخرى إلى ذلك، حيث لاحظتها في هذه الصفة المميزة القوية لدى المؤلف الأرجنتيني خورخي لويس بورجيس، وهي المقدرة على الربط بين المجتمعات، حيث إن بورجيس لم يكن قرأ كل شيء فقط، بل إنه أيضاً فهم الترابطات الأكثر احتمالية وكيفية إقامة وإنشاء ترابط مع الشركاء. وهو بذلك يتجاوز الأزمان والأماكن، ويعرف العلاقات والمطابقات التي يحرم منها الإنسان العادي. ومثل هذا يسري على بيتر دراكر الذي يرى توازيات وقواسم مشتركة بين التطورات الحالية والمستقبلية والتاريخية، ويشد منها أقواساً عقلية واسعة. وإن شخصيات مثل دراكر، وبورجيس يجب أن يتوفر لديهم ذاكرة موسوعية . ولكن ذلك لا يكفي وحده أمام المقدرات والكفاءات العالية للترابطات. إن آخر كتاب لبيتر دراكر " تحديات الإدارة للقرن الحادي والعشرين" يضع شهادة بليغة لهذه المقدرة والكفاءة" فهو يرى أن تكنولوجيا المعلومات في ضوء تاريخ طباعة الفن تؤدي إلى استنتاجات مفاجئة. ويرى كذلك أن الرابحين الدائمين لثورة تكنولوجيا المعلومات هم ليسوا شركات البرمجة والأجهزة، وإنما دور النشر ذات القبضة القوية على العلم والمعرفة والمحتوى. ويورد في كتابه على سبيل المثال دور نشر مثل بيرتلزمان، راينهادمون. وتعتبر بيرتلزمان اليوم من أكبر الناشرين للكتب الصادرة باللغة الإنجليزية على المستوى العالمي.
ومن الطبيعي ألاّ يسمح للمرء بأن يفسر الاختصاص التاريخي لبيتر دراكر بشكل ميكانيكي " ولا توجد تكرارات أو حتميات للتاريخ، كما روّج لها كل من كارل ماركس أو شببينجلر". ولكن الواقع هو أن الإنسان بمرور التاريخ المعروف تغير قليلاً. ويعلمنا بيتر دراكر من التاريخ، ويرفع أمامنا بهذا الأسلوب مرآة تفتح لنا زوايا جديدة، وتساعدنا على فهم أفضل للمستقبل. وهنا تضم الدائرة سورين كيرهجاد، الدانماركي الذي يقول " إن الحياة يمكن فقط أن ُتفهم بالنظر إلى الخلف، ولكن يمكن أن ُيتعايش معها بالنظر إلى الأمام". ولأن بيتر دراكر رجل الماضي، فإنه يمتاز بأنه مفكر المستقبل.

الأكثر قراءة