ثقافة وفنون

شعوب ضد التيار تقدم دروسا لحضارة القرن الـ 21

شعوب ضد التيار تقدم دروسا لحضارة القرن الـ 21

تحاول هذه المجموعات المعزولة عن المجتمعات المتمدنة، الصمود في وجه ضغوط الحياة الحديثة.

أثارت جائحة كورونا من جديد النقاش حول العولمة التي صيرت العالم قرية صغيرة جدا، إذ لم تمض سوى أسابيع قليلة على عطسة وهان الصينية حتى أضحى العالم من أقصاه إلى أقصاه عليلا. لكن هل العولمة بشكلها الحالي قدر محتوم على سكان كوكب الأرض؟ ألا تثبت قصص الشعوب الأصلية المعزولة والمجموعات العرقية، في أنحاء متفرقة من العالم، التي تصر على الممانعة، وتواصل السباحة ضد التيار، وجود فرص وإمكانيات أخرى، غير الانبطاح أمام موج العولمة الجارف.
عادة ما تقدم رحلات المستكشفين الأوروبيين، منذ نهاية القرن الـ15، نحو العالم الجديد بإعجاب وتقدير من قبل المؤرخين، وكما يقول المثل الإفريقي "ستبقى كل الروايات تمجد الصيادين، طالما أن الأسود لا تملك مؤرخين"، فما من أحد سلط الضوء على البشاعات التي رافقت تلك الاستكشافات، من قبيل استعباد السكان الأصليين، وإخضاعهم بشكل وحشي، ما أدى إلى القضاء على الأعراق والقبائل، وفقدان تراث ثقافي وإنساني هائل من معارف السكان الأصليين.
تحاول منظمة "النجاة العالمية" المهتمة بحياة السكان الأصليين حول العالم، حماية تلك البقية الباقية من التجمعات السكانية التي ترفض العيش وفق الحياة المعاصرة، لأن القول الشائع إنها ترفض "الحضارة البشرية" يحمل كثيرا من التجني والتحيز للذات، فما نعيشه ويبدو لنا "حضارة" و"مدنية"، لا يعدو أن يكون في أعين أفراد هذه القبائل خروجا عن "الفطرة" و"همجية" و"توحشا"...
ندع جانبا هذا السجال الممتد والمتجدد بين رجال الأنثروبولوجيا، لنقف عند هذه القبائل التي تمتنع عن القبول بأسلوب الحياة الحديثة، وتصر على العيش اعتمادا على القنص والصيد والتقاط النباتات البرية. وترفض التواصل مع العالم الخارجي، وذلك راجع، وفق تقارير منظمة النجاة العالمية، إلى المخاوف والأحكام المسبقة لها عن الإنسان المعاصر، فقد كان لهؤلاء سابق احتكاك ومواجهة مع "الرجل الأبيض".
تحاول هذه المجموعات المعزولة عن المجتمعات المتمدنة، الصمود في وجه ضغوط الحياة الحديثة، بالحفاظ على تقاليدها وعاداتها وطقوسها المتوارثة جيلا عن جيل. لا نعرف كثيرا عن أساليب عيش هذه الشعوب، وهل الانعزال عن المجتمع المعاصر كان عن طواعية واختيار أم جاء استجابة للأوضاع والظروف؟ ويصل إجمالي الأفراد في هذه التجمعات حاليا، بحسب المنظمة ذاتها زهاء 150 مليون إنسان، موزعين على قبائل تنتشر في 60 دولة.
جاء اكتشاف هذه التجمعات القبائلية، في إفريقيا وآسيا وأستراليا وأمريكا، في أغلب الأوقات بالصور الجوية أو عن طريق الصدفة، كما هو الشأن مع قبائل السورما البالغ عددها 12 قبيلة، تنتشر على الحدود ما بين السودان وإثيوبيا، وقد اكتشفت لأول مرة، في ثمانينيات القرن الماضي، من قبل بعثة روسية، حيث انصدم أهالي القبيلة بعد رؤيتهم طاقم البعثة، معتقدين أنهم من الموتى بسبب شحوب واصفرار لونهم. في القارة ذاتها، وغير بعيد في شمال تنزانيا، تحديدا حول بحيرة إياسي في الوادي المتصدع الكبير تعيش قبيلة هادزا، إحدى أقدم تجمعات السكان الأصليين في القارة السمراء، بإجمالي أفراد يصل إلى 1300 شخص، يتحدثون واحدة من أقدم اللغات القبلية في العالم، تعتمد على تباين الإيقاع الصوتي والنقرات أكثر من الكلمات.
وتنتشر مئات من التجمعات البشرية الممانعة في القارة الآسيوية، منها شعوب الآندامن التي تعيش في جزر في خليج البنغال، وعلى رأسها قبيلة السنتينليس، نسبة إلى الجزيرة التي تقطنها في الشمال. وتعد استثنائية لكونها أشد القبائل المعروفة رفضا لكل محاولة الاتصال الخارجي بها. بدءا من عام 1974، حين حاول فريق وثائقيات النزول على الجزيرة لتصوير فيلم عن القبيلة، وانتهت حينها بإصابة قائد الفريق بسهم، ومقتل اثنين من الهنود يتوليان مهمة إرشاد الفريق.
في إندونيسيا، وتحديدا في جبال مقاطعة بنتن في جزيرة جاوة، يعيش شعب بادوي الذي يتعدى - بحسب تقديرات - ربع مليون نسمة، حياة منعزلة للغاية لأسباب يرجح أن تكون ذات صلة بمعتقداتهم الدينية، حيث تنتشر في أوساطهم ثقافة المحرمات من قبيل تناول الطعام في الليل أو وضع العطور. واكتشف علماء الآثار، لأول مرة عام 1970 قبيلة كورويا، "نحو ثلاثة آلاف فرد"، في غينيا الجديدة وإندونيسيا، التي تستخدم أدوات حجرية وخشبية بدائية، ولم تقر بوجود أشخاص غيرهم على قيد الحياة، لاعتقادهم أن العالم دمره زلزال.
يعيش شعب سيمانج "خمسة آلاف شخص" المعروف بأسلوبه البدوي القائم على الترحال في تايلاند وماليزيا، قبل أن يستقر خلال القرن الـ20، مع الحفاظ على أسلوب تقسيم الأدوار في العمل بين الرجال والنساء، حيث يتولى الرجال الصيد، والنساء الطبخ. وينتشر الأليوتيون في جرز الألوتيان في المحيط الهادي، ويعيش معظمهم تجمعات صغيرة في ألاسكا "6700 فرد"، أو في مقاطعة كراي كامشاتكا "500 فرد" التابعة لروسيا الفيدرالية. تتجه لغتهم الأصلية نحو الاندثار، إذ لا يجيدها اليوم إلا 150 شخصا، بينما أغلبيتهم تتكلم اللغتين الروسية والإنجليزية.
وتنتشر هذه المجموعات العرقية بكثرة في القارة الأمريكية، خاصة في أمريكا الجنوبية حيث تساعد غابات الأمازون المطيرة على توفير ظروف عيش أفضل لهؤلاء. ففي البيرو مثلا تعيش قبيلة ميشكو على الالتقاط والصيد، في منطقة مادرى دي ديوس، بعيدا عن المجتمع البيروفي. وتقدر القبائل المعزولة عن العالم في البرازيل بأكثر من 50 قبيلة، تنتشر في أنحاء البلاد داخل الغابات الاستوائية والأراضي العشبية والبيئات شبه الصحراوية. ويعيش شعب أتاكاما الذي فقد لغته الأم "كونزا" التي اندثرت منتصف القرن الـ20، مقسما بين الأرجنتين "13 ألف شخص" والشيلي "30 ألف شخص"، في جبال الأنديز في صحراء أتاكاما، وهي الصحراء الأكثر جفافا على وجه الأرض.
في الأعوام الأخيرة، ازداد الوعي بقضايا السكان الأصليين حول العالم، وسنت دول عدة قوانين تمنع الاقتراب من جرز وأماكن عيش هذه القبائل، قصد حمايتها مما قد يمثله الإنسان من مخاطر بالنسبة إليها، خاصة، بعد أن أثبتت التجربة امتلاك هؤلاء خبرات وتجارب تفتقد إليها حضارة القرن الـ21. وقد مكنتهم من النجاة، من تسوماني 2004 الذي قتل عشرة آلاف من الأفراد في القارة الآسيوية. نعم، لقد توارث أبناء القبائل حول الطبيعة معارف تفوق ما نعرفه نحن عنها، وهي ما مكنهم من البقاء بعد تلك الكارثة الطبيعية. ومع ذلك لا يزال قليلون فقط ينظرون باحترام وتقدير إلى الثروة المعرفية لدى السكان الأصليين، الذين تعرض كثير من ثقافاتهم للمحو أو دمرت بأكملها.
يحشرنا هذا في دوامة أسئلة، تفرض علينا تغيير زاوية النظر، هل هم فعلا "بدائيون"، ومن الأقرب حقا إلى الحضارة، نحن بإجرامنا وجبروتنا وفسادنا أم هم المحافظون على البيئة والمنسجمون مع الطبيعة، نحن، من ندعي الحضارة، ونعيش كل تعقيداتها، أم هؤلاء الذين اختاروا أبسط أشكال الحياة؟ طبعا هذه ليست دعوة كي نتراجع القهقرى، ونرتمي في أحضان الغابة والانعزال، فهذا مستحيل. لكنها دعوة إلى التأمل، قصد استيعاب عملية التطور في كليتها، بأبعادها وأعطابها، وتكلفتها الباهظة على البشر والشجر والحجر. ودعوة إلى تجديد رؤيتنا للعالم في ضوء ما تفرزه جائحة كورونا من مخرجات.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون