يوم البريد العالمي .. خدمات متواصلة رغم الرقمنة

يوم البريد العالمي .. خدمات متواصلة رغم الرقمنة
ساعي بريد - القاهرة / مصر -1893 م.

يحتفل العالم يوم غد 9 تشرين الأول (أكتوبر) باليوم العالمي للبريد، الذي يصادف ذكرى تأسيس الاتحاد البريدي العالمي عام 1874 في مدينة برن السويسرية. ينقضي نصف قرن منذ إعلان الاتحاد في مؤتمر طوكيو عام 1969، تخليد هذه المناسبة السنوية، المحتفى بها بأنشطة مختلفة، في أكثر من 150 دولة في العالم.
تفيد أحدث الأرقام بأن مختلف هيئات البريد على مستوى العالم تعمل على توزيع أكثر من 327 مليار رسالة، وأكثر من سبعة مليارات طرد سنويا، وذلك بفضل شبكة عالمية من المكاتب البريدية ممتدة، تبلغ نحو 640 ألف مكتب، مزودة بأحدث التكنولوجيات بطاقم عمالي تجاوز سقف خمسة ملايين موظف أو مستخدم بريدي.
من المتوقع أن تشهد هذه الأرقام، في المقبل من الأعوام، تراجعا كبيرا، بفعل مخلفات الثورة الرقمية التي زاحمت خدمات البريد التقليدي، بما توفره من خدمات متنوعة وسريعة ومجانية. لا أحد يستطيع قراءة فنجان البريد غدا، حتى وإن بات مؤكدا أن مهام ساعي البريد الكلاسيكية ستغيب، لكن بالإمكان العودة إلى الماضي لاكتشاف بدايات فكرة البريد، ومختلف المراحل التي مر منها قطاع حيوي، قام بأدوار طلائعية في التاريخ البشري.
لغويا، تباينت الآراء حول أصول كلمة "بريد"، فعدها لغويون عربية، وتعني "الرسول"، فيما ردها آخرون إلى كلمة "البردة"، وهي العباءة التي تميز ساعي البريد الذي يحمل الرسائل عن عامة الناس، وذهب فريق ثالث إلى أن أصلها فارسية "بريده دم"، وتعني "المقطوع الذنب"، لأن بغال البريد كانت تعرف بأذنابها المقطوعة تميزا لها عن غيرها.
تفيد الروايات بأن الحضارات القديمة شهدت أنماطا معينة من البريد، فقد كان لدى الصينيين والآشوريين والفرس أنظمة بريدية، ساعدت ملوك هذه الحضارات على إدارة ممالكهم. فالهنود، على سبيل المثال، تبادلوا الرسائل في البحر باستخدام ثمار جوز الهند، وأهالي إسبرطة استعانوا بعصي تلف عليها شرائط جلدية، لبث رسائلهم إلى من تهمه.
تذهب المصادر التاريخية إلى أن الفراعنة أول الأمم التي نظمت البريد في العالم، حيث كانت الرسائل تكتب على ورق البردي، ويتولى ساعي البريد نقل الرسائل من العاصمة، وتوزيعها في سائر أنحاء البلاد، وكان البريد حينها حكرا على المسؤولين السياسيين والقادة العسكريين، أما بقية الشعب فغير معنية بالخدمة، لأن معظمهم يجهلون القراءة والكتابة.
قديما، طور العرب نظام بريديا، مقتبسا من البيزنطيين، لإرسال الرسائل "قصيرة" من منطقة إلى أخرى، يعتمد على تقنية إشعال النيران في المرتفعات، وذلك بغية نقل رسالة مختصرة معلومة المضمون مسبقا. وظهر البريد بمعناه الحقيقي في زمن الدولة الأموية، وازدهر بعد وضع العناوين والاتجاهات والإشارات، وتقدير المسافات على الطرق، ليستعين بها سعاة البريد الذين ينقلون رسائل الخليفة إلى الولاة والجنود، وكان يقوم حينها على "نظام التتابع"، ومعناه يحمل الرجل أو الفارس الرسالة إلى مسافة محدودة، ثم يسلمها بعد ذلك إلى آخر يكون في انتظاره في مكتب للبريد على مسافة معلومة، ليتولى بدوره نقلها إلى أن تكون بين يدي المرسلة إليه.
كان الإغريق أول من استخدم الحمام الزاجل لنقل نتائج الألعاب الأولمبية اليونانية من مكان إقامتها إلى المدن البعيدة. وحظي هذا الطائر العجيب في عالم الاتصالات باهتمام العرب، حتى قال الجاحظ في معرض توثيقه لأهميته "إن العرب يعرفون أنواع الحمام الزاجل كما يعرفون أنساب الخيول"، ونال هذا الطائر عناية خاصة، اعتبارا لدوره في شبكة الاتصال التقليدي، فتم تأسيس الاتحاد الدولي للحمام الزاجل في العاصمة البلجيكية بروكسل.
حديثا، يعد القرن الـ19 قرن الثورة في الخدمات البريدية، بفضل تطور الملاحة البحرية وانتشار القطارات التي كانت عاملا مساعدا في سرعة البريد، فقد كانت عملية فرز الرسائل تتم اختصارا للوقت على متن القطار، وجاء ظهور البريد الجوي، في بداية القرن الـ20، ليزيد من سرعة وجودة الخدمات البريدية، ما شجع الناس وزاد من إقبالهم على استعمال البريد، فصار هذا الطرف الثالث الحاضر دوما ما بين كل طرفين فصلتهما المسافات.
لن تكون الرسالة بين يدي المرسلة إليه ما لم تحمل طابعا بريديا، ولهذا الأخير قصة، تفيد بأن السيد رولاند هيل عاين رفض فتاة بريطانية تسلم رسالتها من موزع البريد، حتى لا تدفع القيمة المالية للرسالة، فاقترح فكرة إصدار طابع يلصق على الرسالة، ويدفعه المرسل مقدما، ووافقت الحكومة البريطانية على المشروع، وكان ذلك في 6 أيار (مايو) 1840، وظهر الطابع برسم الملكة فيكتوريا، ملكة بريطانيا آنذاك، تلاه طابع بريدي برازيلي باسم "عين الثور" عام 1843، وكانت مصر أول دولة عربية تصدر طابعا بريديا عام 1866، وتأسست في العراق أول دائرة رسمية للبريد، وكان ذلك في عام 1874.
اتخذت الطوابع البريدية أشكالا غير متخيلة، فهناك طوابع مثلثة صدرت في منطقة ساحل العاج، إضافة إلى الطوابع الدائرية التي صدرت في الولايات الأمريكية المتحدة، وكانت تمثل شكل الكرة الأرضية، كما أن هناك الطوابع التي اتخذت صورا غير هندسية، كطوابع دولة سيراليون التي صدرت طوابعها على شكل قطع من الفواكه، وتبقى الطوابع المستطيلة الأكثر انتشارا واستخداما في العالم.
يتساءل كثيرون، هل نشهد قريبا عزاء توديع مهنة ساعي البريد؟ سؤال تصعب الإجابة عنه، فالبريد الإلكتروني كما يبدو قد ألغى البريد التقليدي، وإن كان في الواقع مجرد تطوير جزئي في عالم البريد الواسع، خاصة بعد إضافة خدمات أخرى لخدمة نقل الرسائل، كنقل الطرود والبرقيات والحوالات المالية... ما يعني أن خروج البريد في المستقبل المنظور أمر مستبعد.

الأكثر قراءة