ميزانية بأعلى فائض في تاريخ المملكة
بزغت الأرقام القياسية لميزانية الحكومة يوم أمس كشمس جديدة لم يسبق أن سطعت على الاقتصاد السعودي من قبل، كانت حقائق باعثة على الفرح أكثر من كونها خارج الإطار المعتاد للموازنات السابقة. إن ما أظهرته تلك الأرقام الباعثة على الاطمئنان على مستقبل اقتصادنا ووطننا، أنها أكدت قوة ومتانة الاقتصاد السعودي الذي أثبت مقدرة فائقة على تجاوز كل تلك التحديات والعقبات التي مرّت به خلال العقدين الماضيين. ومن المؤمل أن تستمر تلك السياسات الاقتصادية والمالية المتبعة في التكيف مع الأوضاع والمستجدات، التي بفضل تحركاتها المتضمنة إعادة الهيكلة وإعطاء القطاع الخاص دور أكبر، مع التأكيد على سلامة واتزان السياسات الاقتصادية للحكومة خلال الفترة، مستفيداً من تحسّن أسعار النفط في السوق العالمية، إضافة إلى استمرار تحسّن بيئة الاستثمار المحلية لتعزيز إسهام القطاع الخاص، واستمرار السياسة النقدية المتزنة لمؤسسة النقد – على الرغم من الارتفاع الملحوظ في العرض النقدي - في المحافظة على استمرار الاستقرار في المستوى العام للأسعار، إذ لم يتجاوز معدل التضخم 0.4 في المائة خلال عام 2005.
أظهرت أرقام الميزانية الصادرة عن وزارة المالية بالأمس نتائج مبهجة كانت متوقعة ومنتظرة، فهذه الإيرادات والمصروفات الفعلية للعام المالي 1425/1426 "2005", نمواً فعلياً في إجمالي الإيرادات بنسبة 41.5 في المائة لتصل إلى 555 مليار ريال، مقارنةً بنحو 392.3 مليار ريال في العام السابق، أي بزيادة رقمية فاقت الـ 162 مليار ريال، وتُعد الأعلى قيمةً منذ عام 1970، والتي جاءت انعكاساً طبيعياً للمستويات القياسية التي وصلت إليها أسعار النفط العالمية، وصل متوسطها خلال العام حتى تاريخ 12 كانون الأول (ديسمبر) 2005, إلى 56.5 مقارنة بنحو 41.4 دولار أمريكي خلال الفترة نفسها من عام 2004. فيما بلغ إجمالي المصروفات الفعلية خلال عام 1425/1426 "2004", نحو 341 مليار ريال مسجلاً بذلك ارتفاعاً نسبته 19.6 في المائة عن العام السابق، أي بزيادة رقمية بلغت الـ 56 مليار ريال، جاءت نتيجة ـ حسب بيان وزارة المالية - زيادة الرواتب بنسبة 15 في المائة، وصرف راتب شهر أساسي لبعض فئات العاملين السعوديين، وتنفيذ مشاريع بالمشاعر المقدسة، وتصفية مستحقات المزارعين للسنوات السابقة الخاصة بإعانة القمح والشعير والأعلاف والإعانات الزراعية بناء على التوجيهات الملكية الكريمة، والبدلات والعلاوات الإضافية لبعض القطاعات الأمنية والعسكرية لتغطية الجوانب الأمنية، وما استجد من مصروفات طارئة.
فيما حققت الميزانية فائضاً قياسياً يمثل أكبر فائض تحقق في تاريخ الميزانية الحكومية السعودية، حيث وصل إلى 214 مليار ريال متجاوزاً الفائض القياسي الأعلى الذي سُجّل في عام 1980 بنحو 111.5 مليار ريال، ويتوقع أن يصل إلى نحو 18.6 في المائة من إجمالي الناتج المحلي. وما يحسب لهذه الميزانية "الذهبية" أنها خصصت نحو 41 مليار ريال لإطفاء جزء من الدين الحكومي العام لينخفض إلى 475 مليار، ولعل التحسن الكبير في الإيرادات النفطية التي يتوقع أن يتجاوز إسهامها في إجمالي الإيرادات الـ 80 في المائة هو اللاعب الأكثر تأثيراً في عدم حاجة الحكومة للاستعانة بتمويل نفقاتها ومصروفاتها خلال السنة الماضية من المصارف التجارية، حيث أشارت البيانات الأخيرة الصادرة عن مؤسسة النقد العربي السعودي تشرين الأول (أكتوبر) 2005, إلى أن انخفاض حجم الاقتراض الحكومي من المصارف التجارية خلال تلك الفترة بنحو 14.9 مليار ريال، ليستقر عند 131.8 مليار ريال، أي نحو 27.7 في المائة من إجمالي الدين الحكومي العام.
ولعل الاهتمام ينصب من قبل المحللين على فائض/عجز الميزانية نتيجة آثاره التي أدت إلى نشوء الدين العام الذي أثقل عاتق الاقتصاد طوال فترة وجوده، وفيما يلي أستعرض بإيجاز أهم مراحله وتطوراته. حيث سجلت الميزانية السعودية فائضاً في الدخل في فترة السبعينيات باستثناء عامي 1977 و1978 واللذين زادت فيهما النفقات عن الإيرادات ربما بسبب ارتفاع مصروفات بند الرواتب كنتيجة لتعديل سلم رواتب الموظفين في عام 1977. وكان الاتجاه السائد لمؤشرات الميزانية في السبعينيات هو وجود فائض في الإيرادات بسبب القفزات الإيجابية في أسعار النفط. وبلغ المتوسط السنوي في فائض الميزانية المالية للمملكة خلال السبعينيات 11.4 في المائة، واستمر الفائض في الميزانية في بداية الثمانينيات إلى أن بدأت أزمة أسعار النفط تؤثر بشكل كبير في إيرادات الدولة والتي استمرت في الإنفاق على مشاريع التنمية في بداية الأزمة نظراً لارتباطها بعقود طويلة الأجل، ثم بدأت العجوزات في الميزانية الحكومية بالظهور منذ عام 1983 واستمرت طوال الثمانينيات والتسعينيات.
وسجلت حقبة الثمانينيات متوسط عجز سنوي نسبته 7.4 في المائة، وارتفعت النسبة في التسعينيات ليصل متوسط العجز السنوي إلى 8.7 في المائة. ويُعزى السبب في ارتفاع نسبة العجز في التسعينيات إلى استمرار التذبذب في دخل الدولة من النفط مع ارتفاع بند الرواتب الحكومية وكذا ارتفاع نسبة خدمة الدين العام في تلك الفترة. وخلال العامين الأخيرين من التسعينيات بلغ متوسط العجز 8.5 في المائة.
عضو جمعية الاقتصاد السعودية