المناصب ليست حصانة 

الفساد لا لون له ولا شكل، شفاف جدا، يستغل أي منصب أو اسم من أجل تحقيق المصالح الشخصية. فالفساد قد يلبس ثوب رجل أعمال أوضابط أمن، أو قاض، أو كاتب عدل، أو وزير، أو موظف عام، وغيرهم مهما كانت مراكزهم ومكانتهم، ويصل إلى الأستاذ الجامعي، وقد يصل إلى مستوى الطالب الجامعي، الذي يتسلق الفساد ليصل إلى شهادات علمية مزورة تمكنه من المنافسة في الوظائف. ولكل هذا التنوع في أشكال الفساد ومناصب الذين يقترفون إثمه، فإن مكافحته تتطلب جهودا جبارة وعملا دؤوبا وإخلاصا في العمل، وعلى أولئك الذين يجابهون هذا الخطر تقديم مصلحة الوطن على أي اعتبار آخر. وتتحرك السعودية جادة في هذا الجانب، في معركتها ضد الفساد بقوة، حتى أصبح فتح ملفات الفساد جزءا من أجندة عمل الحكومة، ومعيارا مهما للمحاسبة والرقابة المستمرة.

وفي هذا المسار، أعلنت هيئة الرقابة ومكافحة الفساد، أنها باشرت 218 قضية جنائية، خلال الفترة الماضية، وهي قضايا تركزت في أربعة موضوعات وهي، الرشوة، واستغلال النفوذ الوظيفي لتحقيق مصالح شخصية، والتزوير، والاختلاس. وإذا كانت النظرية الأساسية في مفهوم الفساد تؤكد أن الفساد يحدث إذا توافرت ثلاثة أركان وهي، الفرصة، والضغوط، والتبرير، فإن المقصد منها هو تميز الفساد عن غيره من الجرائم، فالوقوع في الفساد يتطلب أن يجد المتورط فيه فرصا للقيام بذلك، كما يجد مبررا نفسيا، وذلك بسبب ضغوط مادية أو اجتماعية خلال فترة التفكير في الفساد، فإذا انكسر أحد هذه الأركان، فإنه يمكن للمتورط في الفساد تجنب الوقوع فيه، لكن قد تكون المسألة أكبر من مجرد كلمة فساد، كما جاء في القضايا التي أعلنتها الهيئة بالأمس.

أعلنت هيئة الرقابة ومكافحة الفساد، عددا من حالات الفساد، التي باشرتها، والتي توزعت - كما أشرنا - في الموضوعات الأربعة، لذا، فإن مراجعة أركان الفساد تصبح ضرورية، وتحتاج إلى فهم أشمل وأعمق، وذلك لأن المتورطين في الفساد شخصيات عامة، لها قيمة ووزن كبير. فتورط مجموعة كبيرة من الأشخاص في مناصب عدة من أجل تضخيم قيمة ثروة رجل أعمال، يجعل المسألة تخرج عن قاعدة الفرصة والتبرير، بل تصل إلى مستوى الجرائم المنظمة. فحجم وعدد ومناصب المتورطين في القضية، يجعلنا نراجع تصنيف الفساد تماما.

فتضخيم أسعار العقارات، تورط فيه عضو مجلس شورى وقاض وكاتب عدل وموظف بنك ومدير شرطة ومدير جمرك وعدد من الضباط. وهذا العدد الكبير، مع تنوع الاختصاصات، يجعل من الصعب افتراض التواطؤ لأجل تحقيق مصلحة شخصية لرجل أعمال فقط، حتى لو كانت هناك رشوة، لكن إذا أضيفت قضايا غسل الأموال والتزوير والحصول على تسهيلات وقروض من بنوك داخل المملكة وخارجها بطريقة غير نظامية، فإننا أمام جريمة منظمة، ولسنا أمام حالة فساد. وكما ظهر في معظم القضايا، فإن غسل الأموال يمثل أسلوبا شائعا في الحالات التي يتم اكتشافها، وهذا أيضا يجعلنا نؤكد أن الموضوع بدأ يصل إلى مستوى الجرائم المنظمة.

فنحن ندرك أن غسل الأموال مرتبط بقضايا خطيرة جدا تمس الأمن الوطني، وليست مجرد مصالح شخصية واستغلال النفوذ، وهذا مقلق، ويجعلنا نطالب بوضع معايير أشد في التعامل مع الحالات التي تكتشفها هيئة الرقابة ومكافحة الفساد. فالقول إنها مجرد حالات فساد، يعني أن المتورط فيها قد تعرض لبعض الضغوط، أو أنه وجد فرصة في حالة ضعف، لكن أن تصل إلى مرحلة غسل الأموال وأن يتورط عدد كبير جدا وفي مناصب رفيعة، فإن الجريمة المنظمة تطل برأسها، وتتطلب حزما وصرامة.

الفساد قد يكون سهلا بسبب وجود الشخص في منصب كبير يمكنه من استغلال المنصب والصلاحيات لأجل مصالح شخصية، فالبعض يجد في المنصب والصلاحيات فرصة، وهذا يمكن فهمه في قضية التزوير في أحد المحاضر لتوريد مركبة فارهة واستخدامها، أو صرف كميات ضخمة من البنزين لإحدى الشركات بطريقة غير نظامية، أو اختلاس أدوية، أو الحصول على شهادة جامعية وسجل أكاديمي مزور، حتى الاستفادة من خدمات الفندق والإقامة فيه مجانا.

كل مظاهر الفساد هذه، تعتمد - كما أشرنا - على وجود فرصة وضغط وتبرير، ونجدها في العادة ترتكز على شخص واحد فقط، ومن الصعب أن تجد أكثر من شخصين في القضية الواحدة، كما تجد الحالات تتمحور حول التكسب من المال العام، أو الحصول على مزايا خاصة، لكن الإضرار بالمجتمع وغسل الأموال ونهب الثروات والتآمر بين حشد من الموظفين، يعد جريمة منظمة تجب مكافحتها من قبل الأجهزة والقطاعات كافة، كما تتطلب تضافر الجهود من أجل كشفها وكشف المتورطين فيها، ذلك ليدرك أصحاب هذه الجرائم أنه لن ينجيهم من العقوبة حجم التآمر ولا حجم أو منصب من تورط معهم فيها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي