«رحلات ثقافية لبلدان عربية» .. الحقيل مجددا لروح أدب الرحلة

«رحلات ثقافية لبلدان عربية» .. الحقيل مجددا لروح أدب الرحلة
كتاب له نكهة خاصة تستهوي القارئ والمؤرخ والرحالة.
«رحلات ثقافية لبلدان عربية» .. الحقيل مجددا لروح أدب الرحلة
الأديب والمورخ عبدالله الحقيل

أبدع العرب القدامى غاية الإبداع في أدب الرحلة، وقد تبلور بعد استقرار أحوال الدولة الإسلامية في القرن الثاني الهجري "الثامن الميلادي"، مع رحالة لم تصلنا آثارهم، لكن ترددت إلينا أصداؤهم، وجاء ذكر رحلاتهم في أمهات الكتب، من قبيل "معجم البلدان" لياقوت الحموي و"كتاب البلدان" لليعقوبي و"مروج الذهب" للمسعودي وغيرهم.
يأتي محمد بن موسى المنجم في مقدمة هؤلاء الرحالة العرب، بعدما قام برحلتين - استأذن فيهما الخليفة العباسي الواثق بالله - كانت الأولى إلى بيزنطة وآسيا الصغرى، أما الثانية فقادته إلى بلاد الخزر، وهي شعوب تركية قديمة ظهرت في شمال القوقاز، وكان في معيته رحالة عربي آخر هو سلام الترجمان، إلى جانبه نذكر سليمان التاجر، رائد أدب الرحلة البحرية في العالمين العربي والإسلامي، الذي قام بإحدى أغرب الرحلات نحو 240 للهجرة، وابن وهب القرشي صاحب رحلة البصرة إلى الصين عام 250 للهجرة، وابن الفقيه الفارسي الرحالة الجغرافي، واضع كتاب "البلدان" في خمسة مجلدات، لم يصلنا منه سوى اختصار وضعه أحدهم بعد نحو قرن... وغيرهم كثير، لكن ابن خرداذبة يبقى أهم رحالة جغرافي أفرزه القرن الثالث الهجري.
منذ ذلك الحين، وهذا الصنف الأدبي الفريد، بما ينصهر في بوتقته من حقول معرفية، التاريخ والجغرافيا والرواية والشعر في تطور وازدهار، لكونه، بتعبير الأديب والمؤرخ السعودي عبدالله بن حمد الحقيل، "أدب مخصب ذو عطاء علمي غزير، بحيث يبرز فيه الجانب التصويري والسياق الأدبي والتحقيق التاريخي والبحث الاجتماعي، مع تطعيمه بمأثور الشعر والحكم، مما تقتضيه المناسبة".
يعد كتاب "رحلات ثقافية لبلدان عربية" الصادر حديثا "2020"، لعبدالله الحقيل أحد رواد أدب الرحلات في الحقبة المعاصرة، من المصنفات النوعية في هذا الحقل الأدبي، خاصة أن صاحبه يدرك كنه وجوهر أدب الرحلات، وعبر عن ذلك في مستهل مؤلفه، حين قال "في قراءة أدب الرحلات متعة وفائدة، ومعرفة وإحاطة بالعادات والتقاليد، والاستمتاع بمشاهد التاريخ ومعالم الحضارات ومظاهر الحياة، وهو سبيل من سبل المعرفة والثقافة الإنسانية، كما أنه مصدر للمؤرخ والجغرافي والاجتماعي".
تقيد الراحل بهذا التحديد في كل رحلات الكتاب، وفي مختلف البلدان التي زارها في الخليج العربي، من الكويت إلى الإمارات مرورا بالبحرين وصولا إلى عُمان واليمن، وفي رحلاته إلى بلاد الشام "سورية، لبنان، الأردن، وفلسطين"، وإلى بلاد مصر والسودان، فبلدان المغرب الكبير "تونس، الجزائر، والمغرب"، وختاما إلى بلاد الأندلس "جبل طارق ومدريد". وكان امتلاك ناصية اللغة العربية - فهو دارسها ومدرسها لعدة أعوام في البلاد العربية - عنصرا مساعدا، فظهرت قوة ومتانة الأسلوب، والقدرة الرهيبة على الوصف.
يهيم قارئ في كتاب، امتزجت فيه المعرفة التاريخية بفصول الجغرافيا وزجالة الشعر وحفريات علم دراسة أسماء الأماكن "الطوبونوميا". لقد نجح الحقيل في تقديم مادة علمية من شأنها مساعدة الباحثين المختصين وجمهور القراء في التعرف على جوانب كثيرة من الحياة والتاريخ والجغرافيا في البلدان التي زارها. فلا تغادر صفحات بلد حتى تواجه بصورة بانورامية عن قطر جديد، تمزج التفاصيل الشخصية بالأحداث العامة، في فسيفساء مركبة تأسر القارئ.
بعيدا عن الغاية وراء الرحلة، يتقمص الحقيل دور المرشد، مستعرضا معطيات تاريخية أو جغرافية لقارئه، فخلال رحلته إلى السلطنة قدم إحداثياتها، "فعمان تقع في موقع متميز في أقصى الجنوب الشرقي لشبه الجزيرة العربية، وهي تطل على ساحل يمتد أكثر من ألف وسبعمائة كيلو متر... عرفت عمان كثغر عربي اشتهر بالتجارة والملاحة، وكان العمانيون روادا للبحار منذ القدم وصناع السفن".
وفي زياراته لليمن، تحدث مطولا عن مدينة صنعاء "... يقال إنها أول مدينة عمرت بعد الطوفان وسميت بسام بن نوح، ولكم حفلت كتب التاريخ والأدب بأخبارها، وهناك عدد جم من الشعراء والمؤرخين والأدباء عنوا بوصفها وآثارها ومعالمها ونقوشها وأنسابها وتاريخها وأخبارها". وابتعد عن الإرشاد السياحي نحو الدبلوماسية الموازية حين قام بزيارة مكتب المحلق التعليمي السعودي، "سررت بما يقدمه المكتب من خدمات جليلة، حيث إن هناك بعثة تعليمية سعودية كبيرة تقوم بالتدريس في مختلف المناطق، وحكومتنا الجليلة تأتي في مقدمة الأمم بذلا وعطاء، حيث بناء المدارس والمستشفيات والطرق والمساجد".
"دمشق موئل التاريخ والأدب/ ومعقل العلم أزمانا وأزمانا، أتيت من نجدنا شرقا لعاصمة/ تاريخها ناصع مجدا وفرسانا" بهذه الأبيات تغنى الكاتب في حضرة دمشق، حيث سجل إعجابه وانبهاره الشديد بـ"جامع بني أمية يحكى تاريخا عظيما، حيث كان الخليفة يصدر أوامره من هذا الجامع، فتأتمر بها الدنيا، فقد كان مكانه قديما معبدا لليونانيين، حتى بناه الوليد بن عبدالملك، الذي بلغت الفتوحات الإسلامية في عهده ذروتها، ويقول المؤرخون: إن بناءه استمر عشر سنوات".
ننقل من زيارة الراحل لبلاد السودان وصفه لما شاهده في النيل، حيث قال "ونحن على ظهر المركب إلى العاصمة السودانية المثلثة، وهي تتكون من أم درمان والخرطوم والخرطوم بحري، ومدينة الخرطوم مدينة حديثة جميلة التخطيط بديعة التنسيق، ولقد أضفت الجسور المقامة على جوانبها روعة وجمالا.. وهذه الجسور جعلت من المدن الثلاث حيث تلتقي أطراف بعضها ببعض كأنها مدينة واحدة".
كان لمشاركة الرجل في تدريس اللغة العربية في الجزائر - فقد كان ضمن أولى البعثات العربية التي وصلت إليها بعد استقلالها - تأثير بالغ في تلقيه ثقافة شمال إفريقيا، وقد ظهر ذلك بوضوح في رحلاته إلى بلدان هذه المنطقة، وأيضا في إلمامه بتاريخ دول المغرب الكبير، فعن قيروان تونس الذي أعجب به كثيرا قال "كان جل علماء الأندلس يتعلمون بالقيروان، وكانت كتب ومؤلفات علمائها تقرأ في الأندلس في مجالات شتى في الفقه واللغة والآداب والبلاغة والشعر، مما كان له تأثيره في أصول الثقافة الأندلسية... وذكر المؤرخون أن الأندلسيين حضروا للاستماع من أبي الحسن القابسي، كما صور أبوبكر بن العربي تلهف الأندلسيين لطلب العلم في جامع القيروان، ذكر ذلك المقري في "نفح الطيب"، كما نزل بها أبو علي القالي ومعه كمية كبيرة من كتبه، وهكذا طارت شهرتها وذاع صيتها العلمي والتاريخي حتى حلت بها المصائب".
تحدث المؤلف في رحلته عن أسماء بعض الأماكن، فالبحرين مثلا تسمى قديما "أوال"، وفيها قال الشاعر "أوال كم صفحات الدهر زاهية/ بذكرها درة التاريخ للعرب"، وكانت ذات مركز في التاريخ، فمنها انطلقت غزوات المسلمين نحو بلاد فارس، وفتحوا كثيرا من تلك البلاد، بقيادة العلاء بن الحضرمي ورفاقه من أولئك الأسلاف الجحاجحة العظام، الذين نشروا الإسلام. وكانت القاهرة تعرف باسم "الفسطاط"، بعدما أسسها عمرو بن العاص عام 20 للهجرة، فأقام بها جامعه العتيق الذي كان ميدانا لحلقات العلم والدراسة والوعظ والإرشاد. وسأل الراحل أهل العراق عن أصل كلمة "الفاو"، وسبب تسميتها، فقيل له "إن ذلك يعود إلى أن الفاو اسم لسفينة شراعية غرقت في نهر المهلبان - نسبة إلى المهلب بن أبي صفرة - وكانت تابعة للديلم، فسميت المدينة باسمها. وروى أحد الإخوة أن الفاو كانت من أرقى مناطق العالم المعروفة بكثرة وجود مادة الحناء".
في إحدى رحلاته تذكر عبدالله الحقيل الرحالة المعروف أمين الريحاني، وهو يدخل صنعاء مبهورا بزحمة التاريخ وجلال الزمن، ونحن - في نهاية هذه الرحلة - سنتذكر رجلا أثرى الخزانة العربية بكتاب له نكهة خاصة، تستهوي القارئ والمؤرخ والرحالة، بل حتى عالم التاريخ والآثار.

الأكثر قراءة