التنمية المستدامة .. مدخل للمصالحة مع البيئة

التنمية المستدامة .. مدخل للمصالحة مع البيئة

يعد مفهوم التنمية المستدامة تطويرا لمفهوم التنمية الاقتصادية على المستوى المحلي للدولة, بمعنى أن مفهوم التنمية المستدامة Sustainability ينسحب على التنمية في مستوييها العالمي والأممي.
ويمكننا القول إن التنمية المستدامة هي النشاط الاقتصادي الذي يؤدي إلى الارتقاء بالرفاهية الاجتماعية بأكبر قدر ممكن من الحرص على الموارد الطبيعية المتاحة وبأقل قدر ممكن من الإساءة إلى البيئة.
ولذلك فإن قضية المحافظة على البيئة المتوازنة في إطار البرامج التنموية المعتمد تنفيذها يأتي في صلب مفهوم التنمية المستدامة.
وبهذا المعنى فإن مفهوم الديمومة (التنمية المستدامة) هو أحد المصطلحات التي أفرزها عصر القرية الكونية والعولمة.
وطوال ما يقرب من 200 عام ظلت برامج التنمية تتجاهل الاعتبارات البيئية وتسهم في إلحاق الضرر بالبيئة عن طريق استخدام مخلفات الصناعة والزراعة ونواتج الاحتراق وغيرها في المحيط البيئي، والإمعان في استغلال الموارد الطبيعية دون النظر إلى التوازن البيئي وإلى احتياجات الكائنات الحية الأخرى التي تعيش في البيئة نفسها، حتى تحولت أجزاء كبيرة من سطح الكرة الأرضية إلى بيئة ملوثة وغير صالحة لحياة الإنسان والكائنات الحية معاً.
وما يزيد من خطر تلوث البيئة أن الغلاف الحيوي ليس له مكان محدد وأن تلوث جزء من نهر من الأنهار في بلد ما يؤدي حتما إلى انتشار التلوث في الأقطار المجاورة الأخرى التي يمر فيها.
إن الإنسان, دون أن يدري, يضع بيئته تحت تأثير مجموعة من الإرهاقات والاستنزافات التي أدت وتؤدي إلى ظهور مجموعة من المشكلات الحياتية التي بدأت تهدد سلامة الإنسان بشكل خاص، وسلامة المخلوقات بشكل عام وتجعل تنفيذ برامج التنمية في مهب الريح.
وتعتبر مشكلة التلوث من أهم المشاكل البيئية التي تدمر مشاريع التنمية الصحية والاجتماعية والاقتصادية. لذلك ينصح العلماء والباحثون بضرورة السير على طريق التعايش مع البيئة والحفاظ عليها، لا أن نسير على طريق تدمير الموارد البيئية مثل قطع الأشجار، والإفراط في التصحر، وهدر المياه، والإكثار من استعمال الطاقة المولدة للغازات الضارة، وإلقاء النفايات وإبقائها مكشوفة على قارعة الطريق، والتي تنعكس علينا بالمزيد من الأوبئة والأمراض، والإسراف في صيد الأسماك والطيور وغير هذا كثير من اعتداء الإنسان على بيئته.
ولذلك فإن التنمية المستدامة تطرح تأكيدها على مبدأ الحاجات البشرية، إلى جانب مسألة السلم الصناعي، والهدف من وراء كل ذلك هو التسيير والتوظيف الأحسن للرأسمال الطبيعي بدلا من تبذيره.
إن التنمية المستدامة تتميز بالبعد الإنساني حيث يجعل من النمو وسيلة للالتحام الاجتماعي ولعملية التطوير في الاختيار السياسي ولا بد لهذا الاختيار أن يكون قبل كل شيء اختيار إنصاف بين الأجيال بمقدار ما هو بين الدول، ستحافظ الأجيال الراهنة، على اختيارات النمو التي تدخر للأجيال المقبلة مستقبلا وارفاً لحياة كريمة هانئة.
ولذلك يتوقف نجاح التنمية المستدامة وبشكل كبير على احترام حقوق الإنسان كما هو منصوص عليه في التصريح الدولي لمنظمة الأمم المتحدة، الحق في بيئة سليمة، الحق في تغذية سليمة وكافية، الحق في التربية، الحق في مناخ آمن.
إن التنمية المستدامة تنطلق من أن الإنسان هو أحد عناصر البيئة بمفهومها الشمولي وهو القادر على إحداث تغيرات جذرية في الاتزانات الطبيعية والحيوية القائمة في الطبيعة من خلال استغلاله عناصر البيئة الحية وغير الحية لخدمة أغراضه، والإنسان في الوقت نفسه هو محور عملية التنمية الشمولية وهدفها، ولذلك فإن التنمية المستدامة بمفهومها الأساسي تهدف إلى التطوير البشري وتحسين نوعية الحياة للإنسان وفي الوقت نفسه عدم الإخلال بالاتزانات الطبيعية والحيوية القائمة والحفاظ على الموارد الطبيعية والحيوية للأجيال المقبلة.
إن التنمية الاقتصادية تتحقق بأهدافها البعيدة، التي تسعى إلى رفع المستوى المعيشي للأفراد، وزيادة الدخل القومي مع استخدام التكنولوجيا النظيفة التي تحقق النمو دون تأثيرات سلبية في البيئة والسكان، وكذلك تحقق العدل الاجتماعي لكل طبقات المجتمع دون إغفال أو إهمال لحقوق الطبقات المعدمة في الصحة والتعليم والإيواء والثقافة، إلى جانب تحقيق الإنصاف للأجيال الحالية والمستقبلية وتوفير الحياة الكريمة لهم بما يحفظ لهم حقهم في الحياة دون إفراط أو هدر.
وتأسيساً على ذلك فإن استراتيجية التنمية المستدامة هي تحقيق التوازن بين التنمية بمتطلباتها المتنوعة والمختلفة مع عدم الهدر أو التعدي الجائر والدائم على مصادر البيئة الطبيعية والمادية، بما يحقق التنمية الملائمة للبيئة وبما يحقق أهداف التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية.
لقد كانت دول العالم, إلى وقت قريب, تهتم بوضع برامج التنمية بعيداً عن التوازن البيئي، بل كانت الإشارة إلى الضمانات البيئية تبدو كمبررات غير مجدية أو كمعوقات لسرعة تنفيذ المشاريع، لذلك كان من الضروري تحقيق التنمية التي توفر نوعية أفضل من الحياة في إطار سليم بيئياً، مع تأكيد أن التنمية عملية متكاملة، اقتصادياً وبيئياً. ونذكر بهذه المناسبة أن المؤتمر الدولي للبيئة البشرية الذي نظمته الأمم المتحدة عام 1972 في العاصمة السويدية استوكهولم هو أول مؤتمر يصدر صيحة تحذير للعالم كله بضرورة الحفاظ على البيئة لتحقيق تنمية بشرية سوية، وقد تواصل الاهتمام الدولي منذ ذلك الحين حتى عقد المؤتمر الثاني باسم قمة الأرض في البرازيل في حزيران (يونيو) عام 1992م وكانت المملكة العربية السعودية إحدى الدول الفاعلة في هذا المؤتمر الذي حضره وزير البترول والثروة المعدنية الأسبق الأستاذ هشام ناظر سفير خادم الحرمين الشريفين في مصر حاليا.
وبحكم هذا الالتحام الوطيد بين التنمية الاقتصادية والبيئة تغير مصطلح التنمية الاقتصادية إلى مصطلح التنمية الملائمة للبيئة بحيث يتم تنفيذ برامج التنمية الاقتصادية بما يتلاءم مع العدالة الاجتماعية والحذر البيئي. وإمعاناً في الاهتمام بمفهوم التنمية المستدامة فقد قامت هيئة الأمم المتحدة بعمل الاستراتيجية الدولية للبيئة عام 1980، ثم أصدرت لجنة التنمية والبيئة عام 1987 تقريرا عن التنمية المتواصلة للعالم وطلبت من جميع دول العالم أن تتعاون للتنمية المستدامة.
وهكذا يتزايد الاهتمام بالبيئة ومشكلاتها في جميع دول العالم في الشرق أو في الغرب وتأسست المنظمات الحكومية وغير الحكومية وتزايدت جهود المجتمع المدني في هذا الصدد، وطرح شعار (نفكر عالميا ونعمل محليا) على جميع فئات المجتمع الدولي في كل دول العالم.
وأكثر من هذا فإن انتشار مفهوم التنمية المستدامة أدى إلى إدماج البعد الاقتصادي الكلي للبيئة في القرار السياسي ورفع من مستوى المساءلة الدولية فيما سمي المحاسبة الخضراء.
وخلاصة القول إن التنمية المستدامة هي التنمية التي تستهدف تحقيق الأهداف البيئية والاجتماعية إلى جانب الأهداف الاقتصادية، وهي القدرة على تحقيق التنمية الرشيدة التي تستجيب لحاجات الأجيال الحالية وأجيال المستقبل، وهي الاستخدام الأمثل للموارد البيئية المتاحة دون المساس أو التعريض لقدرة الأجيال المقبلة على تلبية حاجياتها والاستجابة لمتطلباتها التنموية دون تعريض البيئة والمقومات الطبيعية فيها للدمار والاستنزاف.

الأكثر قراءة