رب ضارة نافعة.. الاقتصاد الخليجي الكلي والأزمة العالمية

رب ضارة نافعة.. الاقتصاد الخليجي الكلي والأزمة العالمية
رب ضارة نافعة.. الاقتصاد الخليجي الكلي والأزمة العالمية

على الرغم من التأثير القاسي الذي خلفته الأزمة المالية العالمية التي انطلقت شرارتها الأولى في بداية عام 2007 مع تفاقم أزمة الرهن العقاري في أمريكا على الاقتصاد العالمي،إلا أن المؤسسات الدولية واصلت تأكيدها على متانة الاقتصادات الخليجية وقدرتها على مواجهة هذه التقلبات، وتلك المؤسسات محقة تماما في ذلك, وبمنتهى الموضوعية سأذهب أبعد مما ذهبت إليه المؤسسات الدولية, وأقول إن الأزمة العالمية التي عصفت بالعالم أجمع وفي المقدمة الاقتصادات الصناعية المتطورة مخلفة بها حالة غير مسبوقة من الكساد ,كان لها جوانب إيجابية على الاقتصادات الخليجية وفي مقدمة ذلك تراجع نسبة التضخم في الدول الخليجية الست الذي نتوقع أن يراوح بين 5 و7 في المائة العام المقبل, إضافة إلى توجه أنظار المستثمرين الدوليين إلى المنطقة باعتبارها ملاذا استثماريا آمنا ومحصنا ضد الأزمات وتداعياتها القاسية.
وفي ضوء الأزمة المالية العالمية، بدأت جهات عديدة بالتساؤل حول مدى قدرة اقتصاديات الخليج على البقاء قوية، وعلى مواصلة مسار نموها, وفي اعتقادي أن المنطقة تتمتع بقاعدة اقتصادية متينة مع أساسيات جوهرية قوية.
لذلك سيكون للأزمة المالية العالمية, أثر إيجابي في منطقة الخليج يتمثل في وضع الاقتصاد الخليجي على المسار الصحيح والسير بثبات بدلا من القفزات الكبيرة التي يعيشها منذ خمس سنوات تقريبا ,فلا يمكن أن تحافظ على معدل نمو 14 و15 في المائة, لكن بالإمكان المحافظة على معدل نمو بحدود 7 أو 8 في المائة.
والشيء المؤكد أن دول الخليج قادرة عل استثمار إيجابيات الأزمة المتمثلة في خفض التضخم ومعالجة تداعياتها وتجاوز سلبياتها بفضل الإيرادات النفطية وفوائض الموازين الحكومية التي تجاوزت 700 مليار دولار خلال الأعوام الخمس الماضية, فالحكومات الخليجية تقف في مواجهة الأزمة بثبات متسلحة بهذا الفائض الذي ستتدخل به عند اللزوم , مستندة إلى سياساتها الاقتصادية المرنة وتوجهها بثبات نحو تنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على مورد النفط.
لقد ساهمت الأزمة المالية في خفض أسعار مواد البناء بنسب معقولة ما يؤدي في النهاية إلى انخفاض أسعار العقارات, ومع انخفاض أسعار النفط تنخفض بالتبعية تكاليف النقل والبناء وأسعار السلع الاستهلاكية وهو ما يصب في مصلحة المستهلك.
لقد أكدت جهات دولية ثقتها بقدرة الاقتصادات الخليجية على تجاوز الأزمة الاقتصادية العالمية بتأثيرات أقل حدة من الكثير من دول العالم الأخرى، في ظل الوضع الاقتصادي القوي الذي تتمتع به.
والانعكاسات السلبية المحدودة للأزمة العالمية على الاقتصادات الخليجية علامة جديدة من علامات صحة المسيرة الاقتصادية الداعية إلى ضرورة حماية أركان العملية الاستثمارية كافة.
يضاف إلى ذلك أن إعلان الدول الخليجية عن سياساتها المالية أمام الرأي العام أضفى المزيد من أجواء الثقة بمتانة اقتصاداتها ومقدرتها على مواجهة الأزمات، كما أنها تبدد الأجواء النفسية السيئة التي أحاطت بعملية الاستثمار، وتدفع باتجاه ديمومة النشاط الاستثماري، بل وتحفيزه على زيادة معدلات النمو، وسرعة التعافي من مختلف المخاطر.
حيث تتميز السياسة المالية للحكومات الخليجية عموما وفي الإمارات خصوصا بشفافية كبيرة، ويبقى العامل الأهم في معادلة النشاط الاستثماري بين الربح والمخاطرة ما قامت به حكومة الإمارات من دعم وحماية القطاع المصرفي بمبلغ وصل إلى نحو 120 مليار درهم، كتسهيلات للبنوك العاملة في الدولة لاستخدامها عند الحاجة، مما يحفظ استقرار السوق ويديم تدفق السيولة المالية رغم اشتداد الأزمة, إضافة إلى ضمان الحكومة للودائع المالية في البنوك.
لذلك فإن المثل العربي القائل "رب ضارة نافعة" قد ينطبق على حال الخليجيين مع الأزمة المالية التي يشهدها العالم حالياً، التي وإن كلفتهم خسائر باهظة في سوق المال المحلية، إلا إنها ساهمت في تحسين قطاعات أخرى وفي تحسين الوضع المعيشي لهم عبر خفض نسبة التضخم.
إن معدل التضخم في الخليج مرشح لتسجيل انخفاض كبير مطلع العام المقبل، نتيجة انخفاض أسعار السلع الأساسية للمستهلك، وأسعار العقارات وأجور النقل وأسعار الوقود، وانتفاء ظاهرة التضخم المستورد متأثرة جميعها بالأزمة المالية العالمية. فأسعار السلع والخدمات في الأسواق الخليجية ستنخفض في المستقبل القريب، وذلك لأن معظم هذه السلع مستوردة من أمريكا وأوروبا اللتين يعيش اقتصادهما أوضاعاً مأساوية، وبالتالي قد تبيع تلك الدول منتجاتها بأسعار أقل نتيجة بحثها عن السيولة النقدية، كما أن هذه الأزمة ستوفر السلع بكميات كبيرة ما يرفع حجم المعروض أمام الطلب وبالتالي تهبط الأسعار.
والمستهلك الخليجي بدأ يلحظ الأثر الإيجابي للأزمة المالية العالمية ومن ذلك ارتفاع قيمة التحويلات الخارجية بالدولار ما يدلل على ارتفاع قيمة الدولار أمام العملات الأخرى.
لقد رأينا كيف انخفضت أسعار الحديد هذه الأيام نتيجة توافر المعروض بكميات كبيرة وهذا ما قد تفعله الأزمة المالية بكثير من السلع فستوفرها بكميات كبيرة ما يقلل قيمتها.
إن أسعار النفط تراجعت كثيرا وسجلت انخفاضاً بلغ معدله 40 في المائة في شهر واحد، فبعد أن كانت 140 دولاراً للبرميل أصبحت الآن بحدود الخمسين دولاراً، الأمر الذي من شأنه خفض أسعار الوقود وتخفيض أجور النقل حول العالم وتكاليف مواد الخام، ما يعد عاملاً مؤثراً أيضاً في توفير السلع بأسعار مناسبة.
إن الحديث عن متانة وقوة الاقتصادات الخليجية وصلابتها اتجاه الأزمات ليس حديثا حماسيا عاطفيا, إنما تشخيص واقعي تدعمه الأرقام وتثبت مصداقيته.
وطبقاً لتقرير التوقعات الاقتصادية العالمية لصندوق النقد الدولي الذي نشر أخيرا بلغ نمو مجموع الناتج المحلي الإجمالي المقدر للاقتصاديات المتقدمة مجتمعة 0.1 في المائة. ومقارنة بذلك، فإن التوقعات الخاصة بنمو الناتج المحلي الإجمالي لمنطقة الخليج، وعلى نطاق أوسع لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، لعام 2009 مازالت قوية، حيث تقدر بمعدل 6.6 في المائة و5.9 في المائة، على التوالي. وهذا ما يضع المنطقة على قمة منحنى النمو للأسواق الناشئة الأخرى، مما يعكس مرونتها في وجه الأزمات الخارجية، حتى مقارنة بالأسواق الناشئة.
ومن الخصائص الاقتصادية المميزة للمنطقة ذلك الدور المتزايد للاستهلاك الخاص في تنامي وتحفيز النشاط الاقتصادي، الذي يلقى دعماً قوياً من التوقعات بنمو حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي إلى 5 في المائة لعام 2008 (مقارنة بـ 3 في المائة في أوائل هذا العقد الأول من الألفية الجديدة)، مما يعكس صعود وعمق الطبقة المتوسطة كقوة دافعة للاستهلاك في المنطقة. وحيث إنه من المتوقع للتضخم أن يعتدل في الربع الأخير من عام 2008 وخلال عام 2009 فهذا من شأنه أن يعيد تحفيز الإنفاق الاستهلاكي بعد أن شهد تباطؤاً مؤقتاً هذا العام، كما سيخفف من آثار انخفاض صادرات المنتجات السلعية.
ومازال من المتوقع لعرض النقد بمفهومه الواسع أن يظهر نمواً قوياً ليصل إلى 6.21 في المائة في عام 2009, الأمر الذي سيكفل توافر السيولة الكافية لتمويل مشاريع البنية التحتية وخطط التوسع. ونعتقد أن النظم المالية في دول منطقة الخليج أكثر متانة بكثير من مثيلاتها في الدول المتقدمة والدول الناشئة الأخرى، وذلك بفضل ضآلة تعرضها لمخاطر الأسواق العالمية والأصول العالية المخاطر، والأهم من ذلك تركيزها على الأنشطة المصرفية الأساسية مع تطبيق معايير ائتمانية رصينة. وهذا ما يتجلى بوضوح من خلال انخفاض معدل القروض غير العاملة مقارنة بأسواق العالم الأخرى. إضافة إلى ذلك، فإن من المقدر لإجمالي فوائض الحساب الجاري لدول الخليج أن تبلغ 368 مليار دولار أمريكي في عام 2008 و312 مليار دولار في عام 2009، وهذا بدوره يكفل أيضاً توافر السيولة الكافية، ويجعل تأثير الأزمة الحالية في الإنفاق الحكومي ضئيلاً جداً .

ورغم أن أسعار النفط قد شهدت انخفاضاً حاداً من أعلى مستويات لها بلغتها في وقت سابق من هذا العام، إلاّ أنها مازالت أعلى إلى حدّ معقول من المستويات المقدرة في الميزانيات العامة. فالواقع هو أن متوسط سعر برميل النفط المقدر في ميزانية السنة المالية 2008/2009 لدول الخليج هو 47 دولاراً للبرميل.
وإذا نظرنا إلى مدى أطول، نرى أن الشرق الأوسط (خاصة منطقة الخليج) يختزن حصة تزيد على 60 في المائة من الاحتياطيات النفطية العالمية المؤكدة، وتبلغ 742 مليار برميل، وهذه الاحتياطيات، إذا ما تم تقييمها بسعر 50 دولاراً للبرميل، فهذا يعني ضمنياً أن هناك ما يزيد على 37 تريليون دولار أمريكي من التدفقات النقدية المستقبلية التي مازالت متاحة لاغتنامها من قبل اقتصاديات المنطقة في المستقبل. وهذه التدفقات النقدية تعادل في الواقع نحو 88 في المائة من القيمة الرأسمالية للسوق العالمي كما في نهاية أيلول (سبتمبر) 2008.
وتبلغ احتياطيات العملات الأجنبية حالياً أعلى مستويات تاريخية لها في دول الخليج الأمر الذي يزيد من قوة وضعها الاقتصادي ويجعلها أكثر قدرة على تجاوز وتخطي الأزمة الحالية. وفضلاً عن ذلك، شهد الهيكل الاقتصادي لدول الخليج العربي تغييرات جوهرية متلاحقة، فالعوائد النفطية الوفيرة الناشئة عن الطفرة في أسعار النفط خلال السنوات الأربع الماضية قد تم استخدامها بصورة أكثر حكمة من قبل الدول المصدرة للنفط في المنطقة، مقارنة بالطفرات النفطية السابقة (كتلك التي شهدتها في السبعينات والثمانينيات من القرن الماضي) . وهذا ما انعكس على شكل تزايد الاستثمار الداخلي في القطاعات غير النفطية، ليتحسن بذلك مستوى تنويع هذه الاقتصاديات. وهذا ما يتضح بجلاء من خلال نمو الناتج المحلي الإجمالي للقطاع غير النفطي في منطقة الخليج بمعدل نمو سنوي مركب بلغ 7،8 في المائة خلال الفترة بين 2004 و2007. في حين نما القطاع النفطي بمعدل 3،2 في المائة فقط. وإضافة إلى ذلك، فقد خطت المنطقة خطوات واسعة من حيث تطوير الأطر الرقابية والتشريعية، وتعزيز مبادئ الإدارة الرشيدة (حوكمة الشركات) التي تزيد أيضاً من كفاءة اقتصادياتها وبيئة العمل فيها.
وقد انعكس كل ما ذكر أعلاه، على شكل موجة من رفع التصنيفات الائتمانية السيادية وتصنيفات الشركات في معظم دول الخليج، مما يبرز التوقعات الاقتصادية القوية والأوضاع المالية والنقدية المتينة لهذه الدول. لذلك نعتقد أن التوقعات الاقتصادية للمنطقة ستبقى قوية، وأن تأثير الأزمة المالية العالمية سيظل محدوداً ويسهل احتواؤه.
لقد استوعبت الحكومات الخليجية الدرس مما حدث في أمريكا وبالتالي فهي ستعمل على اتخاذ تدابير مشددة لحماية اقتصاداتها وزيادة معايير السلامة المالية.

* رئيس مجلس إدارة غرفة تجارة وصناعة أبوظبي

الأكثر قراءة