ثقافة وفنون

أبيات شعرية وقصائد .. وصفة طبية لعلاج المرضى

أبيات شعرية وقصائد .. وصفة طبية لعلاج المرضى

الكلمات كما تجرح فإنها قادرة على تسريع التئام الجرح ومداواته.


حينما سئل الشاعر أمل دنقل سؤالا عميقا مفاده: لماذا تكتب الشعر؟ أجاب بأن الشعر بديل الانتحار.
ما وصل إليه دنقل خلصت إليه مجموعة من الأبحاث الأكاديمية والتجارب الشخصية، التي أكدت أن الشعر يمكن أن ينتصر على المرض، ولا سيما في حالات المرض النفسي، أو حالات الاكتئاب وفقدان الأحبة والإحباط، وما على شاكلتها، ليوقظ العاطفة والسعادة في قلوبهم.
ولعل ما يثير الدهشة أن عددا من الدول أنشأ مراكز للعلاج الشعري، تستمد من قيمة الشعر قوتها، فمن كان يظن أن الشاعر قد يمنح وصفة طبية لمريض، متخذا دور الطبيب، أو أن أبياتا شعرية قد تداوي عليلا؟
تجرح .. وتداوي
الكلمات كما تجرح فإنها قادرة على تسريع التئام الجرح ومداواته، وانبثق منها الشعر، وتبنى هذه النظرية الدكتور فاروق شوشة الشاعر والأديب الراحل، في كتابه "العلاج بالشعر"، حين تحدث عن شواهد تؤرخ لوجود التداوي بالشعر في الشعر العربي القديم، منها قول مجنون ليلى "فما أشرف الأيفاع إلا صبابة .. ولا أنشد الأشعار إلا تداويا"، واقترح شوشة حينها في كتابه الصادر عام 1986 استخدام قصائد شعرية في علاج المصابين بأمراض نفسية وعصبية، عبر نماذج من شعر صلاح عبدالصبور ونزار قباني وإبراهيم ناجي وأمل دنقل، نظرا لما تتمتع به هذه الأشعار من سهولة اللغة ووضوحها وإمكان النفاذ إليها بلا تعقيد.
واستمد شوشة فكرته من كتاب يحمل الاسم ذاته باللغة الإنجليزية، شارك فيه أكثر من 30 عالما متخصصا في علم الأمراض النفسية والعصبية وعلم الاجتماع، ويصف الكتاب تجربة عملية أجريت في معهد طبي في نيويورك، وفيه استمع المرضى لأبيات شعرية تتميز بلغة واضحة وصور ومعان تمكن الإحاطة بها، ومن ثم يبدأ الحضور تعقيباتهم، فيرى أحدهم أن القصيدة تصور خفاشا في الليل، وآخر يرى أنها بمنزلة بستان مليء بأنواع شتى من الفاكهة، وآخرون تحدثوا عن سفينة على وشك الغرق في لجة البحر، ومع تكرار الجلسات الشعرية، يلاحظ المعالج ما يراه المريض ويسبر أغوار ما في داخل المرضى، ليتمكن من تحديد نوع التداوي الذي يصلح لعلاج المريض، كأن يسألهم عما لفت اهتمامهم في القصيدة، أو إن كانت تذكره بموقف ما.
وليس هذا فحسب؛ فموسيقى الكلمات في الشعر تحرر مشاعر المريض، وتساعده على التعبير عن أفكاره، ووسيلة للإفضاء والتنفيس الانفعالي، وتهيئ له إمكانية مشاطرة الغير عواطفه العميقة.
مركز للعلاج الشعري
حينما تحدث الفلاسفة القدماء لأول مرة عن قدرة الشعر على العلاج، قوبلت هذه النظرية بانتقادات كثيرة، إلا أن تضافر هذه النظريات حول الشعر وتكاملها جعله أكثر إقناعا، حتى وصل الأمر إلى تقديس الإله أبولو كإله ثنائي للشعر والطب، الأول يستهدف الروح، والآخر الجسد.
فقد كتب أرسطو "الشعر وسيلة للتطهر والتخلص من الآلام والحزن"، ونادى فرويد بنظرية "الشعر والأحلام وجهان لعملة واحدة"، من خلال إعلاء كليهما للرمزية، وبينما يظل الحلم منقوصا من لسان قائله لأنه يخشى البوح أو لا يتذكر، يظل الشعر أفضل ما يمكن منحه من مريض لمعالج، كوحدة كاملة الأركان لما يشعر به ويعانيه.
ورغم هذه الكتابات القديمة، إلا أن العلاج بالشعر لم يوثق ويرصد بالشكل الصحيح إلا في القرن الـ20، مع ارتفاع موجة الثقافة، وعزز من ذلك إنشاء مركز للعلاج الشعري في نيويورك، الذي يساعد المرضى على أن يكتشفوا مشاعرهم من خلال الشعر، وأن يشعروا بعمق أكثر.
أنقذتني القصيدة
لا شك أن الاستماع إلى الشعر وقراءته يغيران في الحالة النفسية، وفي هذا الإطار، تقول المؤلفة كيم روسن في كتابها "أنقذتني القصيدة.. قوة الكلمات المتحولة"، "إنها تعرفت بالصدفة على قوة الشعر، حينما عصفت بها كآبة قاتلة في عام 1994، فراحت تستمع إلى قصائد يلقيها الشعراء بأصواتهم، فجعلت تلك الأصوات جسدها يرتعش، كأنه قد ولد من جديد، لتصبح القصائد علاجها الشعري الدائم".
ولا يوجه الشعر سهام "أبياته" إلى من يعاني حالة نفسية مثل الانتحار والإحباط والصدمات النفسية فقط، إنما يشمل ذلك من يعاني اضطرابات الشخصية الحدية، والقلق والتوتر، والأفكار الانتحارية، ومشكلات الهوية، وفقدان الشهية، أو الشره، والفوبيات المختلفة، كفوبيا الأماكن المغلقة والمرتفعة، والعنصرية، والنرجسية. وأكدت عشرات الدراسات، التي وصلت إلى نحو مائتي دراسة خلال الـ20 عاما الماضية، أن الشعر أثبت جدواه في علاج الاكتئاب وتخفيف أعراضه، حيث يبعث على الأمل ويقضي على الأحقاد.
التشافي بالكتابة
لا تخلو المعارف العالمية من تناول فكرة التداوي بالآداب والقراءة، حتى ظهر مصطلح "البيبلوثيرابي"، ويتكون من مقطعين اثنين، "المكتبة والعلاج"، ولم يعد مستغربا أن يقدم لك طبيب وصفة طبية تتضمن عنوان كتاب.
بدورهم، يؤكد معالجون نفسيون - عبر دراسات وأبحاث على مرضى - أن كتابة الشعر أيضا تسهل من عملية الشفاء، وإن لم يتم ذلك بمساعدة طبيب نفسي، حيث ترى ليا تافورد الباحثة في مجال العمل المجتمعي في جامعة تورنتو الكندية "أن كتابة الشعر قد تساعد على تجميع وإطلاق المشاعر الحادة التي أثارتها تجربة مؤلمة، كما أن التقاط المشاعر الصعبة على ورقة يمكن أن يساعد الناس على فهم أنفسهم بشكل أفضل".
وحول الكتابة، يقول الدكتور بين بيكر أستاذ علم النفس في جامعة تكساس في كتابه "التشافي بالكتابة"، "إن الكتابة عن الثورات العاطفية التي تحدث للإنسان تساعده على الشفاء من الاضطرابات الناشئة عن الصدمة، كما أن تهيج المشاعر، لا يكتفي في آثاره السلبية بناحية العواطف فحسب؛ فالطلاق وفقدان الوظيفة أو موت شخص عزيز ومقرب على سبيل المثال يؤثر في كل ما له علاقة بنا، كالاستقرار المادي، وعلاقتنا بالآخرين ونظرتنا إلى أنفسنا وإلى ما حولنا، ورؤيتنا عن الحياة والموت، وبذلك فالكتابة تساعدنا على الإحاطة بالتجربة وتنظيمها في سلك الطريق".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون