ثقافة وفنون

أدب السجون .. توثيق الإنسان جرائم الإنسان

أدب السجون .. توثيق الإنسان جرائم الإنسان

"الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود".

أدب السجون .. توثيق الإنسان جرائم الإنسان

كان "أدب السجون" ملازما للقمع الذي رافق الطبيعة البشرية، فحضر في كل اللغات، وفي كل الحقب والأزمان، وتطوعت أصوات عاشت تجارب الاعتقال أو رويت لها أو حتى من نسج خيالها، لنقل تجارب ما وراء القضبان إلى الجمهور في قوالب فكرية وأدبية متنوعة، تراوح بين الرواية والقصة والسيرة والقصيدة. شكل السجن عبر التاريخ أحد الهواجس التي شغلت الإنسان عبر التاريخ، إذ لا تكاد تخلو ثقافة أي شعب من هذه الظاهرة، التي تشكلت في الواقع قبل أن تتشكل على مستوى الوعي الإنساني. يُطلق أدب السجون على أي عمل أدبي، يسرد قصة شخص – فردا أو جماعة – قضاها في مكان مضاد لإرادته، دون أدنى اعتبار لزمن الكتابة؛ فلا ضير أن تكتب على شكل يوميات أثناء الاعتقال، أو تحرر بعد مغادرة المعتقل زنزانته ومعانقة الحرية، ما دامت ملتزمة الشرط الموضوعي للتصنيف، المرتبط بتصوير مناحي الحياة خلف القضبان، وجميع الأحداث البشعة داخل السجن، وأصناف الظلم والبطش والمعاناة؛ مادية كانت أو معنوية، التي كان نزلاء يتعرضون لها خلال فترة الاعتقال. بهذا الشرط يستلهم "أدب السجن" سماته من التجربة الواقعية في السرد. في تعريفه "أدب السجون"، يعده الروائي مصطفى لغتيري؛ صاحب رواية "ابن السماء"، "تلك الكتابة التي تلامس تجربة الاعتقال السياسي إبداعيا. فهي بذلك تتخذ من الكتابة وسيلة لتصفية الحساب مع تجربة إنسانية ووجودية ونفسية مريرة، قد يكون المرء قد عاشها فعليا أو سمع عن تفاصيلها من أحد السجناء، أو هي فقط عبارة عن تجربة متخيلة لها ما يدعمها في الواقع، مما حدث لكثير من السجناء، وتناقلته الألسنة أو وسائل الإعلام.. باختصار، إنه أدب يحاول توثيق أبشع جرائم الإنسان تجاه الإنسان". يفضل بعض النقاد تسميته "الأدب السياسي"؛ لارتباطه الشديد بتوثيق وقائع الاعتقال السياسي، بدلا من "أدب السجون"؛ فوقع الإسناد الأول أخف وألطف في الأذن من صلصلة الثاني، إلا أنه يبقى اختيارا غير موفق إطلاقا؛ لما قد يثيره من التباس وتداخل مع السير الذاتية لرجال السياسة من ناحية، ومن ناحية أخرى لكون الغاية من وراء التفكير في هذا الصنف من الكتابة في الأصل، هي كشف هول وفجاعة وفظاعة ما يعيشه الأفراد في الأقبية والمعتقلات، فأخطر ما في السجن أن تفقد احترامك لذاتك. تاريخيا، يصعب تحديد العمل المؤسس لـ"أدب السجون"، صعوبة الحديث عن أول سجين في التاريخ، ومن اخترع السجن؟ وكيف كان شكل السجن الأول؟ وهل كانت تجربة السجن الأولى فردية أم جماعية؟.. لكن بعض المصادر التاريخية تعد بداية الكتابة في "أدب السجون"، كانت مع بوثيوس الفيلسوف والسياسي الروماني "480 - 525"، في كتابه "عزاء الفلسفة"، الذي يرجح أنه كتب أثناء وجوده في السجن، انتظارا لتنفيذ حكم الإعدام فيه. عموما، تبقى الكتابة عن تجارب السجون قديمة جدا، قدم فعل الاعتقال وفكرة السجن ذاتها. يكتشف القارئ لأي عمل إبداعي ينتمي إلى هذا المجال - بالدرجة الأولى الأعمال الروائية - أدبا إنسانيا نضاليا، انسل من رحم الوجع اليومي والمعاناة النفسية والقهر الذاتي، حيث تمتزج مشاعر المكابرة وعزة النفس بأحاسيس الذل والإحباط والانكسار، ويختلط الألم بالأمل في فضاء السجن، حيث لا يموت الإنسان من الجوع أو من الحر أو البرد أو الضرب أو الأمراض أو الحشرات، لكنه قد يموت من طول الانتظار. معتقلات تكاد سماتها تكون متشابهة، ينطبق عليها المثل القائل "الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود". على غرار باقي العشوب والأمم، كان حصاد العرب في أدب السجون وافرا، عبر تاريخ يمتد إلى عصر الشاعر أبي فراس الحمداني، ويرجح أن يكون حتى قبله، حين كتب "رومياته" في سجون الروم، لكن فورة هذا الصنف الأدبي لم تزدهر إلا في القرن الماضي، مع مجيء الاستعمار، وما تلاه من احتدام للصراع على السلطة في عديد من الدول العربية، أفضى هذا الأمر إلى ارتفاع منسوب الدسائس والمؤامرات، فيما بين الأطراف المتصارعة "الأنظمة / المعارضة"، ما عجل بفتح الباب على مصراعيه للاعتقال السياسي. في رفوف الخزانة العربية عينات من "أدب السجون"، لا محالة سيعاني القارئ كثيرا أثناء قراءتها، لقدرة أصحابها الفريدة؛ على استعمال اللغة والعناية بالأسلوب وتوظيف التركيب لجر القارئ إلى معايشة التجربة معهم وراء قضبان الزنزانة، لدرجة أن هذه الروايات تخلف ندوبا داخل كل من يقرأها. تعد من هذه العينات رواية "القوقعة: يوميات متلصص" لمصطفى خليفة الروائي السوري المسيحي، الذي سرد ما ذاقه من صنوف التعذيب النفسي والجسدي، في السجون السورية، لمدة 13 عاما؛ بتهمة الانتماء إلى جماعة إسلامية، بعد عودته من فرنسا، حيث كان يدرس الإخراج السينمائي. ورواية المغربي أحمد المرزوقي "تزممارت: الزنزانة رقم 10" ضمن هذه المجموعة أيضا، حيث يروي صاحبها معاناة 18 عاما من السجن في "تزممارت" لتورطه في انقلاب 1971 ضد الملك الحسن الثاني، فقبض عليه وحوكم عسكريا بعد فشل المحاولة، ثم رحل إلى السجن، حيث تلقى أشد أنواع العذاب؛ منها وضعه في قبر مظلم، ومنحه فتات الطعام والماء الملوث، دون أن يرى أو يكلم أحدا. ومن بين ما نقرأه للمرزوقي "سأبقى أقول للجميع لا تقربوا السجن.. أعرف أن كلامي لن يلغي السجون، ليس في بلادي، ليس خلال حياتي". في المغرب خلف الاحتقان السياسي في زمن السبعينيات التي توصف في التداول المغربي بـ"سنوات الجمر والرصاص"، تراكما في مجال "أدب السجون"، من أبرز تلك الأعمال رواية "تلك العتمة الباهرة" لطاهر بن جلون، الذي نقل من خلالها شهادة عزيز بنبين، أحد رفاق المرزوقي في سجن تزممارت، وكذلك رواية "من الصخيرات إلى تزممارت؛ تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم"، لصاحبها محمد الرايس، ورواية "الساحة الشرفية" للكاتب والصحافي عبد القادر الشاوي، و"يوميات سجين متوسطي" للروائي حسن الدردابي، و"أفول الليل" للطاهر محفوظي، و"العريس" لصلاح الوديع. يطول الحديث عن "أدب السجون" في الأقطار العربية، فلكل دولة قسمة ونصيب منه. يبقى التمييز واجبا حيال أمرين، يتعلق الأول بموقع الكاتب في الرواية، بمعنى هل هو البطل الحقيقي أم مجرد راو، كما حدث مع الطاهر بن جلون، حيث يرفض نقاد كثر تصنيف روايته ضمن قائمة "أدب السجون"، ويرتبط الثاني بجودة النصوص، فليس كل ما يكتب بالقوة الإبداعية نفسها التي تجعل منه نصا أدبيا متميزا؛ فمعظم الأحيان نكون أمام مذكرات أو يوميات سردية، تفتقد الشروط الأساسية لصناعة متن أدبي مقبول.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون