الصراع على كعكة الميزانية يتواصل بين أغنياء وفقراء الاتحاد الأوروبي

الصراع على كعكة الميزانية يتواصل بين أغنياء وفقراء الاتحاد الأوروبي

لن يكون أمام قادة الاتحاد الأوروبي إلا عقد قمة أخرى لمناقشة ما فشلت فيه قمتهم الأولى، فالأسبوع الماضي اجتمعوا في بروكسل وانفض جمعهم قبل موعده، بعدما أخفقوا في التوصل إلى اتفاق بشأن خطط الميزانية المستقبلية للاتحاد، ففشل القمة الأولى والحاجة إلى قمة ثانية كشف للجميع أن الميزانية التي يجب أن تعكس مدى الوحدة الأوروبية، ونهج الاتفاق أو حتى التقارب في وجهات النظر بين القادة الأوروبيين حول أولويات التكتل، تكشف عكس ذلك تماما، إذ برهنت على أن الأزمة التي يمر بها الاتحاد الأوروبي عميقة، والتناقضات الداخلية قوية، والصراعات بين الدول الغنية والفقيرة بداخلها جلية، وتثبت أن تباين الآراء واختلاف وجهات النظر بين أولويات أثرياء الاتحاد والأعضاء الفقراء واضحة للعيان ولا تخطئها العين، وأن رؤيتهم تجاه المستقبل غير متفق عليها.
لا جدل في أن مفاوضات ميزانيات الاتحاد الأوروبي كانت صعبة دائما، ومنذ بدء الاتحاد في التوسع شرقا عقب انهيار الاتحاد السوفيتي والاتهامات متبادلة بين الدول الأعضاء بأن دول العجز المالي تنفق أعلى من قدرتها المالية، مقابل اتهامات أخرى بأن دول الفائض المالي مثل، ألمانيا وهولندا تبخل في مساعدة الدول المأزومة ماليا مثل، اليونان وإسبانيا، لكن المفاوضات هذه المرة كانت أكثر تعقيدا بسبب رحيل المملكة المتحدة التي كانت مساهما صافيا كبيرا، إذ قدرت مساهمة بريطانيا في 2018 بنحو 17.4 مليار جنيه إسترليني.
رغم أن بعض دول الاتحاد ستعوض المساهمة البريطانية، كما أن الاتحاد الأوروبي سيتوقف عن الإنفاق على برامجه في المملكة المتحدة، فإن إجمالي العجز نتيجة خروج بريطانيا من عضوية النادي الأوروبي بلغ 9 مليار جنيه إسترليني.
ويقول لـ"الاقتصادية"، سيكلتون فوي الباحث الاقتصادي في اللجنة الاقتصادية في الاتحاد الأوروبي، إن "طبيعة المفاوضات هذه المرة كانت أكثر تعقيدا، فنحن نتحدث عن ميزانية بقيمة تريليون يورو (1.1 تريليون دولار)، وهذا المبلغ من الضخامة، إذ يستحق أن يتصارع عليه الجميع، كما أن المفاوضات الأوروبية تدور حول ميزانية الاتحاد الأوروبي طويلة الأجل أو ما يعرف بالإطار المالي في الأعوام السبعة القادمة، أي حتى عام 2027، وبناء عليها سيتحدد مستوى الإنفاق والمبلغ الذي سيتم إنفاقه على قطاعات محددة".
ويضيف فوي، "نظرا لاختلاف درجات النمو الاقتصادي بين دول الاتحاد، والأكثر أهمية، اختلاف القطاعات الاقتصادية القوية من دولة إلى أخرى، فإن التوصل إلى اتفاق طويل الاجل لمدة سبعة أعوام، شديد التعقيد، حيث يتطلب تسويات سياسية أكثر منها اقتصادية".
يرى كثير من الخبراء أن جوهر أزمة ميزانية الاتحاد الأوروبي تتمحور حول خلاف بين مجموعة "مقتصدين " وتضم أربع دول هي، هولندا والنمسا والسويد والدنمارك وهي بلدان تحقق فائضا في ميزانيتها وتدعو إلى ضبط النفس المالي، في مواجهة مجموعة "أصدقاء مقتصدين" وتضم 16 دولة وهؤلاء يعارضون خفض ميزانية الاتحاد، إذ يعتمدون على أموال الاتحاد الأوروبي لتحقيق الاستقرار في ميزانيتهم الوطنية، وزاد الأمر تعقيدا مؤخرا بين المجموعتين بعد أن أعلنت المفوضية الأوروبية أن المساعدات المالية ستقدم للبلدان التي تحترم قوانين التكتل، ما فسره البعض أنه إشارة إلى بولندا والمجر العضوين في مجموعة "أصدقاء مقتصدين" اللذين اتهما مؤخرا بانتهاك الأسس الديمقراطية للاتحاد الأوروبي.
ويعتقد مارك آندي أستاذ الاقتصاد الأوروبي، أن المفاوضات الراهنة بشأن الميزانية الأوروبية شديدة التعقيد، لكنها حتما ستسفر عن اتفاق في نهاية المطاف يعكس موازين القوى الحقيقية داخل الاتحاد، ويضيف لـ"الاقتصادية": "أولا، قضية إجمالي العجز في ميزانية الاتحاد يقدر بحوالي 86 مليار دولار، فالميزانية تغطي طبعا اهتمامات الاتحاد جميعها، بل تظهر الآن دعوة الجانب الفرنسي إلى إنشاء صندوق الدفاع الأوروبي، وبغض النظر عن اتفاق أو اختلاف الأوروبيين حول ذلك، فمؤكد أن تلك الاقتراحات تتطلب تمويلا، ما يزيد الضغوط على الميزانية.. ثانيا، هناك مطالب للدول الفقيرة بأن تساندها الدول الغنية، والقيمة المالية لتلك المساندة، محل خلاف، وجزء من تلك المطالب يتمحور حول القطاع الزراعي، وهو قطاع أساس في بلدان شرق ووسط أوروبا وفي فرنسا، بينما في ألمانيا والنمسا لا يتمتع بذات الثقل، ولذا تطالب دول الاتحاد الزراعية بحماية الإنفاق الزراعي، بل وزيادته بهدف مساعدة البلدان الأكثر فقرا في الاتحاد، إلا أن الاتجاه العام في الاتحاد الأوروبي يسير عكس ذلك ففي 1986 مثل الإنفاق الزراعي 70 في المائة من إجمالي ميزانية التكتل، واليوم يمثل أقل من 40 في المائة، وفي الميزانية المقترحة حاليا ينخفض الإنفاق إلى 30 في المائة، ومن المرجح أن يستمر الانخفاض في الأعوام المقبلة، ثالثا دولة مثل فرنسا تحتل المرتبة الثالثة في الترتيب الاقتصادي في الاتحاد بعد ألمانيا والمملكة المتحدة، وبعد خروج بريطانيا ستحتل المرتبة الثانية، ورغم ذلك لا تعد مساهما صافيا في الاتحاد، لأن ما تحصل عليه يتجاوز مساهمتها الاقتصادية، وهذا خلل جوهري".
لا يقف الصراع الأوروبي – الأوروبي حول كيفية توزيع ميزانية الأعوام السبعة المقبلة عند تلك الخلافات، بل يمتد إلى أفكار تتعلق بمساهمات الدول، وبينما تطالب بعض الدول بألا تزيد مساهمة كل دولة عن 1 في المائة من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي، إذ تتزعم فرنسا تيارا يطالب بأن تكون المساهمات أعلى من ذلك، ولا شك أن كل تيار يطرح مبررات لموقفه، لكن من المشكوك فيه في ظل تنامي النزاعات العدائية والرافضة لفكرة التكتل الأوروبي في عديد من الدول الأوروبية، أن تزيد نسبة مساهمة كل دولة عن 1 في المائة.
لاشك أن ميزانية بقيمة تريليون يورو أمر شديد الأهمية لقادة الاتحاد وللقوى المدافعة عن الاتحاد ماليا وسياسيا في الوقت الراهن، لكن من تناقضات الوضع الحالي أن تلك الميزانية التي تعد الأكبر في تاريخ الاتحاد، وتعكس اتجاهات اقتصادية توسعية، تأتي في وقت يتقلص فيه الاتحاد لأول مرة في تاريخه بخروج المملكة المتحدة، فيما يعتقد البعض أن تلك الميزانية الضخمة متعمدة من قبل قادة الاتحاد وتحديدا ألمانيا وفرنسا، إذ تبعث برسالة للجميع بأنه لا يوجد أي شكوك في أن الاتحاد سيواصل عمله، وأنه لا تراجع عن فكرة الوحدة الأوروبية حتى مع خروج المملكة المتحدة، بل إن البعض يتخوف من أن تصطدم الميزانية بالبرلمان الأوروبي، إذ ستعرض عليه لنيل الموافقة، وربما تواجه صعوبات في تمريرها خاصة أن البرلمان يرغب في زيادة الإنفاق.
الدكتور راسل سميث الخبير الاقتصادي وعضو حزب "بريكست" المناصر لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يعد أن تلك الميزانية الضخمة تعكس أزمة الاتحاد أكثر مما تكشف عن وحدة حقيقية داخلية، ويشير لـ"الاقتصادية"، إلى أن "قادة الاتحاد الأوروبي وبدلا من أن يدعو إلى وقفة مع الذات بعد خروج بريطانيا من الاتحاد، عبر طرح ميزانية لثلاثة أعوام على الأكثر، حتى تحل المشاكل الجذرية في التكتل، فإن بروكسل تواصل تعنتها وترفض النظر فيما إذا كان مشروع الاتحاد الأوروبي يحتاج إلى إصلاح ديمقراطي أو إعادة توجيه استراتيجي، لكنها بدلا من ذلك تتبنى ميزانية ضخمة للغاية تعزز البيروقراطية في الاتحاد وتروج لاندماج زائف بين البلدان الأوروبية لا أحد في استعداد له بعد، ومن ثم تستنزف موارد الاتحاد بدلا من أن تسهم فعليا في رفع مستوى الشعوب الأوروبية".

إنشرها

أضف تعليق