الأب والمربي والمستشار .. أيننا من إنصافه؟!

الأب والمربي والمستشار .. أيننا من إنصافه؟!

الأب والمربي والمستشار .. أيننا من إنصافه؟!

في الألفية الثالثة، تتلاقى الجهود الكبيرة، وتوظف الأموال الطائلة، وتعد البرامج الحديثة، وتتوالى الورش، وتوضع الاستراتيجيات، وذلك كله تحت عنوان: " تطوير التعليم " ولكننا لا نزال نقرأ في المخرجات إخفاقا متواليا، ونعيش في المدخلات اضطرابا بينا، ونمضي نبحث عن الأسباب، ونتوعّر في التعليل، مع أننا نعلم يقينًا أن السبب الرئيس، هو ذبول المعلم، وتساقط هيبته، وتغييب دوره، وإفقاره مالاً وحالاً، عن عمد، أو عن سابقِ جهل.
لن ندخل في مقارنة بين دور معلم الأمس، وحال معلم اليوم، لأننا لا نريد أن نقف بكم بين موقفين: أوَّلُهُما هيبةٌ ووقار، وثانيهما هوانٌ واندحار... ألسنا كلُّنا هنا شاهدين على الكارثة؟ ثم ندعي أن المعلم هو الأب الحنون، والمربي الأمين، والمستشارُ المؤتمن، والسراجُ المنير!!! فأين نحن من لحظة الصدق مع الذات، لنعترفَ بأن مثل هذه الصفات، إنما كانت لمعلم قد خلا من قبل، وأن الذي تُرِكَ بين ظهرانِينا هو ظل معلم، بل عنوان خال من كل معاني القيادة والتأثير.
هذا المعلم الذي ظل وجهًا لنا زمنًا طويلاً، يستوي الآن أمامَنا وجهُهُ وظهرُه، فَجَرُؤْنا عليه طلابًا ومجتمعًا: فلا يتوانى الكثير منا عن تقريعه، ولا يتورّع طالبه عن إهانته، مقبلاً ومدبرًا.. ولا يخجل المجتمع من تحقيره، وهو المجتمع نفسه الذي كان يسمو به، ويتباهى به بين أفراده، ويراه أمةً في رجل، ورجلاً بأمة!
لن نتساءل: من المسؤول عن الوصول بالمعلم إلى مرحلة الإحباط والخيبة، ولن نسأل المعلّم: لماذا لا تتمنى طلوعَ الصبح، وقَرْعَ الجرسِ الجادّ.. لأننا نعرف الإجابةَ، وأكثر.. نعرف أننا جميعًا أسهمنا في وضع المعلّم في مهبّ الضياع، وأن المعلّم أفاقَ ذاتَ صباح، فوجد نفسه على هامش الحياة، يمتهن النواح، ويغردُ في الفراغ!
لن نتساءل عمن دفع المعلّم كي يعمل سمسارًا، أو بقالاً، أو سائقًا، أو بوّابًا، أو معلّمَ بيوت، في تالي نهاره، وفي جزء كبير من ليله.. مع تأكيدنا على شرف كل مهنة، لكن ذلك كله ليس للمعلم، فهو كان دائمًا ذا رسالة سامية، وصاحب شخصية كانت قدوةً، بل حُلُمًا يراود النشءَ ليلَ نهار.
لن نلوم عصر النِّفْط، ولا جموحَ مِهَنِ الطبِّ والهندسة والتجارة، ولا طغيان الحِرَفِ قبالةَ مهنة التعليم، لكننا نلوم تعمُّدَنَا إهمالَ المعلّم، وطردَه من محافلِ الاحترام، والإشادة، والمصاهرة، والمناصرة.
لن نلومَ وسائلَ الإعلام التي أساءت إلى المعلم إخبارًا، ووصفًا، وتجريحًا، وتشريحًا، وتقاعسًا عن الانتصار له، حين كان الانتصار له واجبًا، ولن نعفيَ بعض المعلّمين الذين أهملوا أنفسَهم من التنمية الثقافية والعلمية، فتقزموا أمام طلبتهم، وبين أقرانهم.. لن نعفيَهم من المسؤولية عن تردّي أوضاعهم في المجتمعات، وفي رحاب المدارس، تمامًا مثلما لن نعفيَ هؤلاء الذين هانوا على أنفسهم، فسهُل هوانُهم على الناس، واسترخَصوا مهنتهم، فكَسَدوا هم في مصارِف الحياة.. نعم لن نعفيَ مِنَ المسؤولية بعضَ المعلمين الذين وضعوا علامةَ استفهام كبيرةٍ أمام استقامتهم الشخصية، وأمام شخصياتهم التربوية.
نحن جميعًا نحمل وِزر ما آل إليه المعلّم، فنحن من ربطنا قيمتَه بمعاشِه، ونحن من تخلينا عن دعمه فنيًّا ومعنويًا، وحرمناه من أخذ دوره في وضع مناهج التعليم، وصنع قراراته.. نحن من قابلنا ثقافةَ المعلم بثقافة التبذير والاستعلاء، وأقصيناه عن عرش أحلامه، برؤيته لأبنائه يدونون اسمَه في محطات الحياة.. نحن من نسينا، بل تناسينا أن المعلّم نذرَ نفسَه لِيُحبَّ اثنين أكثرَ من حبه لنفسه: ابنَه وطالبَه، وأبدلناه خوفًا وانهزامًا وهروبًا، وحُبًّا دائمًا لمغادَرَةِ مهنةِ التعليم.
فإذا كنا نعترف بما فعلته أيدينا، فلماذا تستمر مسرحيةُ دموعنا إذًا؟ ولماذا لا نبدأُ من فورنا بإصلاح ما يمكننا إصلاحه، وإنه لكثيرٌ كثير، يبدأُ من كلمة طيبة، وينتهي بفعل جادٍّ رزينٍ يُعيد الأمور إلى نصابها.. لِمَ لا، ونحن ندفع إلى المعلّم بقطع أفئدتنا ليرعاها؟ لمَ لا، ونحن جميعًا – اعترفنا، أم لم نعترف – من صُنْع يديه؟!

مكتب التربية العربي لدول الخليج

الأكثر قراءة