لندن موضع اختبار تقنية «كشف القناع» ضمن الديمقراطيات
في اليوم الأخير من كانون الثاني (يناير) الماضي، كان هناك عدد قليل من المتسوقين والعاملين في المكاتب، ممن كانوا يسارعون في السير عبر وسط بلدة رومفورد في شرقي لندن، وكانت الأوشحة مشدودة لمكافحة البرد، إلا أنهم ما لبثوا أن أدركوا أنهم كانوا أشبه بحيوانات في تجارب للشرطة.
كان أفراد الشرطة الذين يجلسون داخل شاحنة صغيرة متوقفة في مكان قريب يراقبونهم على الشاشات، مستخدمين تقنية جديدة تأمل الشرطة أن تقلل بشكل جذري من الجريمة في لندن: تكنولوجيا التعرف على الوجه مباشرة.
الكاميرات المتمركزة بالقرب من محطة قطار رومفورد التقطت كل وجه مر، وطابقته على قائمة مراقبة للشرطة من المطلوبين.
التطابقات الناجحة من شأنها أن تؤدي إلى الاعتقال الفوري.
مع ذلك، وعلى الرغم من إمكانية مكافحة الجريمة، إلا أن التجربة سرعان ما تعثرت في التقنية في القضايا الشائكة التي تحيط بالتكنولوجيا.
رجل ملتحٍ يرتدي قبعة بيسبول زرقاء اقترب من المنطقة المراقبة، ثم سحب سترته الرمادية لتغطية وجهه. كان قد تم إخباره للتو من قِبل أحد المارة أن الشرطة تختبر تكنولوجيا التعرف على الوجه في المنطقة، ولم يرغب في المشاركة.
طالبته الشرطة بأن يمتثل ومسحت وجهه بأداة للتعرف على الوجه على الهاتف الخلوي، على الرغم من أن وجهه لم يتطابق مع أي وجه من المجرمين المعروفين، إلا أنه نشأت مشاجرة لفظية أدت إلى فرض غرامة على الرجل، لأنه قال لأحد أفراد الشرطة "اغرب عني".
تم التقاط الحادثة بالكامل على الكاميرا من قِبل الصحافيين.
يقول الشرطي مدافعا عن أفعاله "الحقيقة أنه مر وهو يخفي وجهه بشكل واضح لكي يحول دون أن نتعرف عليه. هذا يمنحنا سببا لإيقافه".
الحادثة - واحدة من أربع عمليات اعتقال لأشخاص تجنبوا الكاميرات في رومفورد في ذلك اليوم - أحد تسبيب تكنولوجيا التعرف على الوجه "على الهواء" مباشرة في مثل هذا القلق الشديد بين المراقبين ونشطاء الحقوق المدنية.
بالنظر إلى أن التكنولوجيا شكل من أشكال المراقبة العلنية، يعتقد كثيرون أن الموافقة الصريحة للمواطنين على خوض التجربة أمر أساسي، وهو أمر لم يحصل عليه ذلك الرجل من رومفورد قط.
"عندما يتم إيقاف الأشخاص وتفتيشهم في الشارع، أو تغريمهم في حال تجنبوا الكاميرات، أو عندما لا يوافقون على مراقبتهم بالكاميرات، فهذه مشكلة"، كما يقول بيتر فوسي، أستاذ علم الإجرام في جامعة إسكس، الذي كان حاضرا في رومفورد، كمراقب مستقل عينته الشرطة.
"في أخلاقيات البحث، وقبل كل شيء فإن المهم هو أن تكون متأكدا تماما من موافقة الأشخاص على المشاركة في ذلك البحث، لكن ما حدث في هذه التجارب هو أنه إذا لم يشارك الأشخاص فيها، فستتدخل الشرطة وتوقفهم بل وتفتشهم".
لندن الآن في طليعة معركة حول استخدام تكنولوجيا التعرف على الوجه من قِبل السلطات، التي تعم كثيرا من البلدان الديمقراطية.
بالنظر إلى أن التكنولوجيا أصبحت متاحة تجاريا في الأعوام الأخيرة، عبر شركات مثل أبل وفيسبوك، كان أكبر استخدام لها هو في البلدان ذات الأنظمة السياسية الاستبدادية، خاصة في الصين، التي تستخدم تكنولوجيا التعرف على الوجه كجزء من مراقبتها المكثفة والمتطفلة للغاية، على المسلمين من اليوجور في مقاطعة شينجيانج، وهي ممارسات شجبتها مجموعات حقوق الإنسان.
في الوقت الذي بدأت فيه دوائر الشرطة في البلدان الديمقراطية التحقق من التكنولوجيا، أصبحت لندن واحدة من ساحات الاختبار الرئيسة بسبب الشبكة الكبيرة من كاميرات CCTV التي تعمل في الأصل في المدينة.
كانت عملية رومفورد واحدة من عشر عمليات من هذا النوع في أنحاء لندن كافة، على يد شرطة العاصمة على مدى ثلاثة أعوام، بما في ذلك مرتان في مهرجان نوتينج هيل.
خلال التجارب، خططت الشرطة لجمع الأدلة حول دقة وتحيز النظام، ولتقييم إذا ما كان استخدام تكنولوجيا التصيد يمكن تبريره من خلال فوائدها المحتملة: منع أو حل ملابسات الجرائم العنيفة الكبرى.
استخدام تكنولوجيا التعرف على الوجه من قِبل قوتين - شرطتا العاصمة في لندن وجنوب ويلز - أثارتا نقاشا وطنيا حول المكان الذي سيضع فيه الأشخاص حدا لحماية حقهم في الخصوصية.
يتركز النقاش حول إذا ما كان هناك أساس قانوني لاستخدام تكنولوجيا التعرف على الوجه مباشرة على عامة السكان، وما إذا كان الاستخدام الشامل للتكنولوجيا سيقوض بشكل أساسي حقوق المواطنين.
يأتي ذلك في أعقاب اختيار بعض المدن الأمريكية، مثل سان فرانسيسكو وأوكلاند، حظر استخدام تكنولوجيا التعرف على الوجه من قِبل الهيئات العامة بشكل مؤقت، إلى أن يتم وضع قواعد منظمة واضحة لاستخدام تلك التقنيات.
كثير من القضايا قد يصل إلى ذروته في قضية قانونية في بريطانيا. في أيار (مايو) الماضي، قدم إيد بريدجز الذي يعيش في كارديف، عاصمة ويلز، أحد أول التحديات القانونية لاستخدام الشرطة تكنولوجيا التعرف على الوجه، على أساس أنها انتهاك لقانون حقوق الإنسان لعام 1998.
يمكن أن تكون نتيجة القضية سابقة في جميع أنحاء العالم، من الولايات المتحدة إلى الهند وأستراليا، حيث تُختَبَر تكنولوجيا التعرف على الوجه بهدوء.
"لسنا على علم بأي مكان تُستخدَم فيه تكنولوجيا التعرف على الوجه مباشرة للمراقبة العامة للشعب، باستثناء الصين"، كما يقول سيلكي كارلو، العضو التنفيذي في منظمة بيج براذرز ووتش Big Brother Watch، وهي منظمة لحملات حقوق الإنسان تشكل تحديا قانونيا منفصلا ضد استخدام شرطة العاصمة التكنولوجيا في لندن، "من المثير للقلق فعلا أن تسلك بريطانيا هذا المسار، وأن تحدد سابقة ليس للديمقراطيات الأخرى فحسب، بل بالتأكيد لدول أقل ليبرالية حيث تُستخدَم لتعقب الأقليات العرقية في الصين. إن الاحتمالات مخيفة،" في رأي المنظمة.
لندن مصدر اختبار واضح لتكنولوجيات المراقبة البصرية. هناك نحو 420 ألف كاميرا CCTV تعمل في المدينة وحولها، ما يجعلها ثاني أكثر مدينة تخضع للمراقبة في العالم بعد بكين، التي يبلغ عدد الكاميرات فيها 470 ألفا، وفقا لتقرير من معهد بروكينجز.
العاصمة الأمريكية واشنطن تحل في المرتبة الثالثة، فلديها 30 ألف كاميرا فقط. تم وضع كثير منها في أوائل التسعينيات استجابة لتفجيرات الجيش الجمهوري الإيرلندي في المدينة، تلتها موجات من عمليات التثبيت بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) والهجمات الإرهابية على مترو أنفاق لندن، وبمناسبة الألعاب الأولمبية عام 2012.
لأعوام، كانت الكاميرات المنتشرة في أنحاء المدينة كافة أجهزة "غبية"، مجرد ثقوب، لم تكن تعرف ما الذي كانت تنظر إليه.
مع ذلك، فإن التطورات في مجال الذكاء الاصطناعي، إلى جانب انخفاض تكلفة الكاميرات نفسها، غيّرا طبيعة أعمال المراقبة البصرية.
خوارزميات تعلّم الآلة المدربة للتعرف على أشخاص معينين أو أشياء أو سلوكيات غريبة، أعطت هذه الكاميرات قوة كبيرة ما سمح لها "بالرؤية" بشكل فعال.
خلال الأعوام الخمسة التالية، من المتوقع أن يتضاعف عدد ما يسمى الكاميرات الذكية في الأماكن العامة والخاصة، من المدارس إلى المراحيض العامة إلى المستشفيات، في أنحاء لندن كافة، وفقا لتقرير أعدّ توني بورتر، مفوض كاميرات المراقبة في بريطانيا، ما يوجد مدينة ذكية، ستصبح هي نفسها عيون وآذان نظام إنفاذ القانون المثقل بالأعباء.
تكتب إستير كولويل، الرئيسة العالمية للإعلام والتكنولوجيا في "آكسنتشر" Accenture، إلى جانب فريق من الزملاء في تقرير عن مراقبة الذكاء الاصطناعي، "الذكاء الاصطناعي يُمكن أن يحلل آلاف مقاطع الفيديو لتتبع الحالات الشاذة وتنبيه السلطات إليها. في حالة تمكينها، سيكون بإمكان المدن حشد بيانات نظام الأمن التجاري والسكني للحصول على صورة في الوقت الحقيقي للنشاط الإجرامي المحتمل".
منذ فترة يتم استخدام عناصر هذا المستقبل من قِبل الهيئات العامة في لندن. هيئة النقل العام في لندن استخدمت الذكاء الاصطناعي لتحليل لقطات من الكاميرات في مناطق مثل شارع ليفربول ومايل إند، لاكتشاف السلوكيات غير العادية من المشاة المتسكعين أو الأمتعة المشبوهة.
المجالس العامة، مثل نيوهام، جربت كاميرات CCTV الذكية التي ترسل تنبيهات تلقائية إلى المسؤولين حول أحداث مثل تراكم الحشود أو الأجسام المشبوهة.
يقول بورتر في تقرير صدر في كانون الثاني (يناير) الماضي، "إن ملايين المرضى في مستشفيات خدمة الصحة الوطنية يتعرضون لتكنولوجيا مراقبة متزايدة من الطائرات بدون طيار والفيديو الذي يوضع على الجسم للتعرف التلقائي على الوجه".
كاميرات CCTV الذكية رائدة أيضا في القطاع الخاص.
سلاسل المتاجر الشاملة مثل بادجينز، والمتاجر الكبيرة منها تيسكو وسينزبيري وماركس آند سبنسر جميعها لديها منذ فترة كاميرات قادرة، أو ستكون قادرة قريبا على التعرف على الوجه، تستخدم لتطبيقات تراوح بين منع الجريمة وتقدير عمر الذين يشترون الكحول أو السجائر.
ستطرح "يوتي" وهي ناشئة بريطانية في مجال التكنولوجيا برنامجها لتحليل الوجه في أكثر من 25 ألف متجر عام في الأشهر الأربعة المقبلة لتقدير عمر الزبائن؛ بينما تقول شركة فيسووتش وهي ناشئة أخرى في لندن "إنه تمت تجربة برنامجها الذي يمكنه التعرف على المجرمين المعروفين، من قِبل عدد من متاجر التجزئة في الشارع الرئيس في العامين الماضيين، وسيتم تضمينه قريبا في 550 متجرا في أنحاء لندن كافة".
كانت شركة فيسووتش تجري المحادثات لتوقيع صفقات مشاركة البيانات مع شرطتي العاصمة والحي المالي في لندن.
شون مور، الرئيس التنفيذي لشركة تروفيس. أيه آي Trueface.ai في مجال تكنولوجيا التعرف على الوجه القائمة في الولايات المتحدة ولها عملاء في بريطانيا يقول "إن لندن سوق متقدمة".
"الكاميرات موجودة في الأصل وهي موجودة منذ عقود. لقد تم وضعها من أجل السلامة والأمن، لذلك لم تكن هناك ضجة كبيرة حولها".
مثل شركتي فيسووتش ويوتي، لا تصنع النظيرة الأمريكية الكاميرات، لكنها توفر برمجياتها للشركات التي تتطلع إلى تحديث كاميرات CCTV الحالية. يوضح مور أن الشركة "تضع برنامجنا على البنية التحتية الحالية".
الحدود غير واضحة على نحو متزايد بين استخدام تكنولوجيا التعرف على الوجه من قِبل الشركات والقطاع العام، حيث يتم تشغيل أنظمة كاميرات المراقبة في الأماكن العامة من قِبل القطاع الخاص، الذي يتيح لوكالات إنفاذ القانون حرية الوصول إلى لقطاتها.
يتم بناء أنظمة التعرف على الوجه الخاصة بالشرطة من قِبل منظمات تجارية، الأمر الذي يمكن أن يثير قضايا أخرى.
شركة إن إي سي NEC اليابانية توفر الكاميرات لشرطتي العاصمة وجنوب ويلز.
هانا كوشمان في منظمة ليبرتي، وهي منظمة غير ربحية تدعم القضية ضد شرطة جنوب ويلز، تقول "إن أي فحص للتكنولوجيا يتطلب الوصول إلى بيانات التدريب والخوارزميات، لكن الشركة تعد تلك المعلومات سرا تجاريا.
هذا التداخل بين الحكومة والشركات الخاصة يؤدي إلى انعدام الشفافية التي لا مفر منها".
يعتقد بعض المختصين أن التعاون الوثيق بين القطاعين العام والخاص يمثل مشكلة متنامية، لأنه لا يوجد حاليا إطار عمل أخلاقي أو تنظيمي للاستخدام الخاص لتكنولوجيات المراقبة.
قالت ستيفاني هير، الناشطة والباحثة، "كل هذه الشركات لديها زبائن، لكنها لا تستطيع مشاركة أسماء عملائها. القطاع الخاص هو المكان الذي نواجه فيه أكبر الجهل. ليست لدينا بيانات حول كيف تستخدمها الشركات، لا أحد يشرف عليها، إنها مجانية تماما وللجميع".