عودة 200 مليون ريال ضالة!
للمخرج المصري الراحل يوسف شاهين فيلم أنتج عام 1976م من تأليف صلاح جاهين بعنوان "عودة الابن الضال" وهو للأمانة من أسوأ الأفلام التي شاهدتها في حياتي رغم معارضة الكثير من محبي السينما المصرية لي في هذا الرأي الذي لم أجد حرجاً في يوما ما من المجاهرة به حتى وإن وصمت ذائقتي الفنية بأبشع الصفات نتيجة لذلك, ولعل السبب الوحيد الذي جعلني أحتفظ به في ذاكرتي هو اسمه المميز, وهو أول ما خطر ببالي عندما قرأت في صحيفة محلية أخيراً خبراً يشير إلى عودة 200 مليون ريال إلى خزانة الدولة عن طريق حساب إبراء الذمة الذي تم تخصيصه لتودع فيه المبالغ المختلسة من المال العام من قبل من استيقظت ضمائرهم من السادة المختلسين بعد سبات عميق, والحق أقول إن تخصيص مثل هذا الحساب خطوة إيجابية جداً, وقد تسهم في عودة بقية الملايين الضالة في حال استيقظت الكثير من الضمائر المتوفاة دماغياً, وهذا أمر ليس ببعيد فكل شيء جائز لكن ما أخشاه حقاً هو أن تتأثر تلك الأموال الضالة بعنوان المسلسل الكويتي الكوميدي الشهير "خرج ولم يعد" الذي أنتج عام 1980م وقام ببطولته الفنان الجميل غانم الصالح أو "سليمان أبو الريش"!
وبعيداً عن السينما والتلفزيون وأبطالهما يجب أن أشير إلى أن البنك الدولي يعرّف الفساد على أنه أحد أكبر العوائق أمام مسيرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فهو ينال من عملية التنمية من خلال تشويه سيادة القانون وإضعاف الركائز المؤسسية التي يقوم عليها النمو الاقتصادي, كما يوضح البنك الدولي أن الفساد كالسرطان تماماً، ولا يتمتع أي بلد بمناعة ضده سواء كان غنياً أم فقيراً أو أية مؤسسة إنمائية متعددة الأطراف, ويصيب الفساد دون شك المشروعات التي يمولها البنك الدولي نفسه، غير أن تقدير قيمة الأموال الضائعة نتيجة لممارسات الفساد أمر شبه مستحيل!
إن الفساد يا سادة يا كرام كما يتضح يكتسح العالم اكتساحاً, وطالما أن هناك 200 مليون ريال سعودي عادت سالمة إلى حساب إبراء الذمة فهذا يعني أننا ما زلنا بخير وما زالت ذمة فاسدينا أفضل من ذمم بقية الفاسدين في العالم بما فيهم فاسدي البنك الدولي، وهذا أمر مطمئن ولله الحمد!
في صغري وبينما كنت أخطو خطواتي الأولى كان لنا جار قدم من قرية بعيدة للعمل في المدينة بحثاً عن الرزق بعد أن التحق بوظيفة بالكاد يسد راتبها رمق مواطن من الدرجة العاشرة, طبعاً هذا ما قيل لي لاحقاً لأنني لم أدرك الرجل إلا وهو من أعيان البلد, لدرجة أنه أصبح مضرباً للمثل في العصامية بالنسبة لي, وعندما كبرت علمت أن جارنا العصامي الهمام لم يكن عصامياً ولا هم يحزنون, وإنما كان شخصاً فاسداً نفذ بجلده من سياط المحاسبة, بل إنني التقيت في إحدى المناسبات، ولم أفاجأ أبداً من طريقة سرده لمغامراته الفهلوية أيام الوظيفة, تلك الطريقة التي تميل للفخر بالإنجاز الذي حققه أكثر من ميلها إلى أي شيء آخر.
أوردت هذه القصة هنا لأبين أن مشكلة الفساد لا تنشأ بسبب الفقر أو بسبب الفوضى، كما يشير المثل المصري "المال السايب يعلم السرقة" فقط, وإنما هناك علاقة لهذه الظاهرة بالخلفية الثقافية والاجتماعية للشخص الفاسد, ولا يمكننا إنكار أن هناك أشخاصا ينطلقون من خلفيات ثقافية تصوّر الفساد كعمل بطولي، وبلهجتنا الشعبية الدارجة "مرجلة", وهؤلاء تحديداً لا أعتقد أنهم بحاجة إلى حساب لإبراء الذمة لتستفيق ضمائرهم, بل هم بحاجة إلى سؤال واحد فقط هو "من أين لك هذا؟".