ألمانيا .. قصة تردد عملاق في الهيمنة على القارة العجوز

ألمانيا .. قصة تردد عملاق في الهيمنة على القارة العجوز
ألمانيا .. قصة تردد عملاق في الهيمنة على القارة العجوز

غالبا ما يكتب المتخصصون في ألمانيا عن نضال الأمة للتصالح مع ماضيها.
أولا وقبل كل شيء، يفكرون في الحقبة النازية المأساوية في الفترة ما بين 1933 - 1945.
ومع ذلك، فإن مكافحة النازية تتطلب بعض الوعي بكيفية تطور المجتمع الألماني، وكذلك الدولة القومية الألمانية نفسها، في أطوارها المتعددة: بعد توحيدها في عام 1871 خلال الحرب العالمية الأولى، وفي ظل الديمقراطية الخاطئة في جمهورية فايمار بعد عام 1918.
ربما لا ينبغي توقف الجهود المبذولة لمحاولة فهم ذلك. أشار سيمون بولمر وويليام باترسون في كتابهما الموثوق والجذاب إلى أن الألمان سيستفيدون من مواجهة الحقبة الزمنية لجمهورية بون – أي الدولة الألمانية الغربية التي تأسست في عام 1949، ثم توحدت مع ألمانيا الشرقية الشيوعية السابقة بعد سقوط جدار برلين في عام 1989.
على عكس شقيقتها الشرقية القبيحة، كانت ألمانيا الغربية في ذلك الوقت الدولة الأكثر ازدهارا وحرية في تاريخ الأمة.
كما كان لها أيضا ما يسميه المؤلفان "عقدة تجنب القيادة" – أي التردد في أن تتعامل مع السلطة كشيء طبيعي تستخدمه. وبدلا من ذلك، كانت هوية ألمانيا الغربية والنظام الداخلي الليبرالي فيها، وكذلك المصداقية الدولية مستندة إلى جهود لوضع البلاد في قلب أوروبا المتكاملة، ومقاومة المغريات القديمة للنزعة القومية القاسية.
بعد نحو 30 عاما من إعادة التوحيد، يعتقد عدد قليل من أصدقاء ألمانيا أنه من المستحسن أن تختبئ الدولة في قوقعتها بهذه الطريقة.
ونظرا إلى كونها قوة الاتحاد الأوروبي التي لا غنى عنها، فمن المتوقع أن تضع ألمانيا حلولا لتحديات متعددة يواجهها الاتحاد، من الهجرة إلى عدم الاستقرار في منطقة اليورو.
مع ذلك، لا تزال هناك عقدة معينة لتجنب القيادة في المجتمع الألماني بشكل واضح، كما يؤكد المؤلفان.
منذ عام 1990، يبدو أن استعادة السيادة والوحدة الوطنية قد حولت ألمانيا - بشكل أكثر تحديدا ألمانيا الغربية القديمة - إلى "نظام حكم مستقر وراض عن نفسه.. نظام حكم يصر فيه الرأي العام على تفضيل المصالح الاقتصادية الألمانية".
لقد تلاشى كثير من الحماس لأوروبا الموحدة.
فكر في الطريقة التي تعاملت بها ألمانيا مع أزمة الديون السيادية للاتحاد الأوروبي بعد عام 2008. عدّ الساسة ومحافظو البنوك المركزية وقضاة المحاكم الدستورية والمعلقون الإعلاميون وعامة الناس، عمليات الإنقاذ المالية الطارئة لليونان ودول أخرى أمرا مقبولا، على أن يكون ذلك بشروط صارمة.
معظم هذه الجهات الفاعلة غيبت الطريقة التي لعب بها الإقراض المتهور من قبل المصارف الألمانية "دورا شبه متواطئ في حدوث أزمة منطقة اليورو".
وفي قلب الكتاب، هناك سؤالان: هل أصبحت ألمانيا مهيمنة على أوروبا؟ وهل تمنعها السياسة الداخلية الألمانية أو تساعدها على لعب مثل هذا الدور؟ من وجهة نظر بولمر وباترسون، تعد ألمانيا قائدة بالفطرة في المسائل الاقتصادية، وذلك بفضل سجلها الحافل من المتانة المالية، والبراعة في التصدير، وجاذبية نموذج اقتصاد السوق الاجتماعية فيها.
على أنه خلال أزمة منطقة اليورو، فرضت ألمانيا حلولا مثيرة للجدل، جعلت دول جنوب أوروبا، بالذات، غير راغبة في تأييد قيادة برلين، الاتحاد الأرووبي.
وفيما يتعلق بالسياسة الداخلية، فإن قرار المستشارة أنجيلا ميركل السماح بدخول نحو مليون لاجئ ومهاجر في عام 2015 إلى البلاد، دفع إلى "انتقام الشعب" في الانتخابات الفيدرالية عام 2017، عندما حقق حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني الشعبوي تقدما على النطاق الوطني.
يتوقع المؤلفان أن "جميع الحكومات الألمانية ستكون في المستقبل حذرة للغاية" فيما يتعلق بقضايا الهجرة.
يصف بعض الاستراتيجيين في برلين ألمانيا بأنها أسيرة Gestaltungsmacht وهو مصطلح غامض ترجمه المؤلفان بـ"تشكيل السلطة".
هناك اجتهادات عديدة أخرى لترجمة المصطلح الألماني العويص، منها "سلطة تحديد المصير الذاتي" و"السلطة أو القوة الخلاقة" ولعل "السلطة المشتركة لتحديد الذات" هي الأفضل.
ليس للمفهوم دلالات عسكرية مباشرة، إلا أن من الممكن إذا صادفه معظم الألمان العاديين، أن يتصرفوا بطريقة يغلب عليها الشك أو العداء، تجاهه.
الغرائز المناهضة للحروب تزداد عمقا. فكرة أن ألمانيا يجب أن تبقى قوة مدنية بالدرجة الأولى، تحظى بدعم قوي في المجتمع الألماني.
في الوقت نفسه، فإن "المعدات العسكرية الألمانية في حالة بالغة السوء، وقليل جدا منها جاهزة للنشر". في السياسات الخارجية والدفاعية "نحن على بعد سنوات ضوئية من رؤية أي دعم محلي يتيح لألمانيا دور الهيمنة"، على حد الاقتباس من الكتاب.
إن كان من شيء، فإن الخطر الرئيس الذي يواجه أوروبا هو أن الاتحاد الأوروبي، أحد أعمدة نظام ليبرالي أقامه الألمان في وطنهم، ودعموه خارجه، قد يتعرض لخطر يهدد وجوده فماذا سيفعل الألمان؟.
العواقب التي ستواجهها ألمانيا، عندذاك، قد تكون خطيرة للغاية، وقد تنتشر في جميع أنحاء أوروبا.
يقول المؤلفان "إن الاتحاد الأوروبي لم يضطر أبدا إلى مواجهة أزمة "صنع في ألمانيا"، إلا أن احتمال حدوث ذلك في الوقت الحالي، بات أكبر من ذي قبل بكثير".

* رئيس تحرير «فاينانشيال تايمز»