الشركات النفطية .. أزمة (علاقات عامة)

الشركات النفطية .. أزمة (علاقات عامة)

الشركات النفطية .. أزمة (علاقات عامة)

حققت أكبر خمس شركات نفط أمريكية أرباحا في الربع الثالث من هذا العام بلغت 18.3 مليار دولار، ومع هذه الأرباح التفتت الشركات إلى حقيقة أنها تعاني من أزمة علاقات عامة. فمع أسعار النفط المرتفعة التي ألقت بظلالها على المستهلكين من أصحاب المركبات والأسعار العالية التي يدفعونها لتعبئة خزانات سياراتهم أو مقابلة فواتير غاز وقود التدفئة، تصاعدت الأصوات تتهم الشركات بالتربح من أزمة الوقود هذه ودون عمل شيء محسوس لتخفيف حدة الأزمة على الجمهور، وهو ما وجد انعكاسا لدى بعض النواب، حيث بدأ البعض بالحديث عن محاولات لفرض ضريبة على الشركات تتعلق بالأرباح الإضافية التي حصلت عليها. بل ووصل الأمر إلى مشهد مسرحي عندما مثل خمسة من كبار مسؤولي شركات: كسون ـ موبيل، شيفرون ـ تكساكو، كونوكو ـ فيليبس، بي. بي أو بريتش بتروليوم سابقا، وشل، أمام أعضاء الكونجرس يوم الأربعاء الماضي، وهي الجلسة التي استقطبت ثلث الأعضاء من الحزبين وبعض الجمهور والناشطين ممن ارتدوا قمصانا كتب عليها "اكشفوا إكسون".
النائب الجمهوري بيت دومينيشي من نيويورك لخص الوضع بقوله إن جمهور دائرته يتساءل عن المتسبب في ارتفاع أسعار النفط والتلاعب بها، قائلا بصورة مباشرة للمدراء: هل تتلاعبون بالأسعار؟
لي ريموند المسؤول التنفيذي الأول لـ "إكسون ـ موبيل" قال إن الشركات النفطية لا تربح أموالا تفوق ما تربحه شركات أخرى في ميادين مثل الأدوية، وأنها تعيد استثمار جزء من أرباحها لتطوير الصناعة ذاتها.
ويكاد التاريخ يعيد نفسه، فقبل ثلاثة عقود من الزمان وعقب الصدمة النفطية الأولى تعرضت الشركات إلى الموقف ذاته، الأمر الذي دفع جى. كى. جيميسون مدير شركة إكسون وقتها إلى التصريح علنا أنه ليس محرجا من الأرباح العالية التي حققتها "إكسون"، مضيفا أن الشركات تعمل من أجل الربح وأنها لا تعتذر عما تحققه في هذا المجال.
وهذا الإحساس أن الشركات تستفيد من أوقات الأزمات لتعظيم أرباحها يعيد إلى الأذهان الفترة التي كانت فيها "ستاندارد أويل" عملاق الصناعة تسيطر على المشهد النفطي كله، وهي الشركة التي خرجت من تحت عباءتها "إكسون"، "موبيل"، "شيفرون"، و"تكساكو" بعد أن فرض عليها التفتيت، وإذ بأوضاع الصناعة تفرض عليها بعد نحو تسعة عقود من الزمان أن يعود بعضها في شكل اندماجات كما حدث بين "إكسون" و"موبيل"، و"شيفرون" و"تكساكو".
والتفاتا منها إلى هذا الجانب، عمدت الشركات النفطية إلى تكثيف حملاتها الإعلانية حتى قبل التطورات الأخيرة من إعصاري كاترينا وريتا، وهي تهدف بصورة عامة إلى إيصال رسالة إلى الجمهور أنها معهم في مركب واحد، كما تسعى إلى توعية الجمهور وتعليمه بمختلف قضايا الصناعة النفطية المتشابكة.
وكنماذج على هذه الحملات الإعلانية، بدأت كبريات الصحف الأمريكية في نشر صفحات مدفوعة الأجر أكثر مما كانت تتلقاه من قبل، فـ "الواشنطون بوست" مثلا حصلت على سبع صفحات إعلانية من "بي. بي" حتى الآن هذا العام، مقابل لا شيء العام الماضي. و"بي.بي" التي كانت تعرف في السابق على أساس أنها اختصار لـ "بريتش بتروليوم"، حافظت على الحرفين الأولين، لكن قامت بتغيير الكلمتين إلى: ما بعد البترول، وبالإنجليزية Beyond Petroleum، وذلك في إشارة إلى الجهود التي تقوم بها الشركة في ميدان الطاقة المتجددة، والتركيز على شعار الشركة الذي يمثل شمسا مشرقة تحفها أوارق مشعة بالضياء رغم أن ميدان نشاطها الأساسي لا يزال النفط والغاز.
ومواصلة لحديث الإعلانات، فإن "إكسون ـ موبيل" نشرت 19 إعلانا هذا العام مقابل 12 العام الماضي، و"شيفرون ـ تكساكو" 17 مقابل ستة فيما سبق. وحتى معهد البترول الأمريكي، الذي يعمل على مراعاة مصالح الصناعة النفطية، نشر سبعة إعلانات مقابل لا شيء سابقا.
ورغم ذلك يرى مسؤولو الشركات أنه إذا حدث تسرب نفطي مثلا لحصل الحادث على تغطية تصل إلى 100 ساعة من الوقت الإعلامي، لكن ذات الوسائل الإعلامية لا تخصص حيزا يذكر للحديث عن ملايين الدولارات التي أنفقتها الشركات النفطية لمكافحة التلوث، وأنه حتى كارثة الإعصار كاترينا التي نتج عنها تدمير جزء كبير من المرافق النفطية، إلا أنه لم ينجم عنها ضرر يذكر في شكل تسرب نفطي. ولهذا تسعى الحملات الإعلانية إلى تثقيف الجمهور والعمل على تغيير الصورة النمطية المرسومة في الأذهان. فبعضها عبارة عن أسطر قليلة في شكل محادثة بين شخصين، وبعضها يسعى إلى تشكيل صورة الشركة في ذهن المتلقي كما تفعل "بي. بي", وثالثة تعمل على تنشيط فكرة ترشيد استهلاك النفط. فأحد الإعلانات يقول: "لقد احتجنا إلى 125 عاما لاستهلاك ترليون برميل، لكن الترليون الثاني يمكن استهلاكه في 30 عاما فقط."
على أن الأمر أعقد من مجرد علاقات عامة، وهو ما يظهر لدى الساسة، الذين يعرفون الطبعة السياسية الحساسة لهذا الوضع، فكل من النواب الجمهوريين والديمقراطيين يرون أن الصناعة عليها فعل شيء مثل زيادة الاستثمار في الصناعة التكريرية أو زيادة المخزونات أو دعم البرامج الحكومية بصورة مباشرة لصالح ذوي الدخول المنخفضة ومعاونتهم على مقابلة تكلفة تدفئة المنازل هذا الشتاء.
وعندما ذهب وزيرا الداخلية والطاقة جايل نورمان وصمويل بودمان إلى الإدلاء بشهادتيهما أمام لجنة الطاقة والموارد الطبيعية الشهر الماضي في مجلس النواب، وجدا أن الأعضاء أكثر اهتماما بالحديث عن أي خطط أو أفكار جديدة لزيادة الطاقة الإنتاجية أكثر من اهتمامهم بتبعات ما بعد إعصاري كاترينا وريتا.
لجنة البيئة والأشغال العامة التابعة لمجلس النواب أجازت قرارا بتسهيل تحقيق إضافات للمصافي القائمة فعلا لزيادة الطاقة التكريرية في البلاد، وهي خطوة تبدو منسجة مع تحليل وزارة الطاقة القائم على أن الشركات لا تتبنى موقفا وديا تجاه المواد المكررة بسب أرباحها القليلة، وأنه من الأفضل الاتجاه نحو التوسع أكثر من بناء مصاف جديدة.
ومع ورود بعض الاقتراحات حول فرض ضريبة إضافية على الأرباح، إلا أن التجربة السابقة عندما كانت مثل هذه الضريبة قائمة بين عامي 1980 و1988 لا تشجع على تكرارها، خاصة وسجل الصناعة النفطية حافل بالتقلبات، ولا يذكر الكثيرون أنه قبل سبع سنوات فقط كان سعر البرميل في حدود عشرة دولارات.
"إكسون ـ موبيل" التي بلغت أرباحها للأشهر التسعة الأولى من هذا العام 25.4 مليارا، متجاوزة ما حققته طوال العام الماضي، عملت على الدفع باتجاه زيادة استثماراتها، وقالت إنها تمكنت من زيادة حجم الطاقة التكريرية لديها بنحو 2 في المائة، وهو ما يعني إضافة 400 ألف برميل يوميا خلال جملة توسعات في منشآتها القائمة عبر السنوات الماضية، كما ستستثمر 18 مليارا في عمليات التنقيب، الاستكشاف، والتكرير، بزيادة 21 في المائة عما أنفقته العام الماضي في هذه المجالات، وأن استثماراتها الرأسمالية بلغت خلال الربع الماضي 4.4 مليار دولار، بزيادة 22 في المائة عما خصصته في هذا المجال في الربع الثالث من العام الماضي.
وفي واقع الأمر فإن الصناعة النفطية تمر بمنعطفات عديدة وليس بمقدورها توفير كل الآليات والإمكانيات اللازمة لرفع الطاقة الإنتاجية. فمثلا ليس هناك عدد كاف من المهندسين والجيولوجيين، بل وينسحب النقص إلى الناقلات والمقاولين المتخصصين في هذا المجال وخطوط الأنابيب وأماكن التخزين.
وباختصار، وكما يقال فإن أي شيء من فوهة البئر إلى المستهلك يعاني من قدر ما من النقص، والسبب في ذلك يعود إلى دورات الطفرات والكساد المتتالية. فحتى مع الأسعار العالية السائدة حاليا هناك تخوف أن يحدث تراجع سعري يدفع بطريقته في اتجاه تقليص الإنفاق، الأمر الذي دفع باتجاه الاندماج بين الشركات. فمنذ العام 1981 وبعد اتجاه أسعار النفط إلى أسفل تم الاستغناء عن 70 في المائة من قوة العمل في أكبر 25 شركة نفط، أو ما يعادل 1.1 مليون شخص، كما تقول دراسة لشركة جون هيرولد، كما أن الشركات تتقلص, فشركة بي. بي مثلا هي نتاج اندماج عشر شركات منذ عام 1950، واحتوت داخلا شركات مثل أموكو"، أتلانتيك ريتشفيلد، وسنكلير. واليوم فإن أكبر عشر شركات هي في واقع الأمر نتاج اندماج نحو 45 شركة منفصلة.
ومن المشاكل الرئيسية إيجاد العدد الكافي من المهندسين والجيولوجيين، وحتى الموجودين في الولايات المتحدة فإن نصفهم تقريبا يتراوح عمره بين 50 و60 عاما، و15 في المائة فقط منهم أعمارهم بين 20 و30، والمتوسط العام 48 عاما، والتحدي الرئيسي الذي يواجه الصناعة يتمثل في كيفية إبدال هؤلاء بعناصر أكثر شبابا خلال السنوات القليلة المقبلة.
تاريخ الاستغناء عن الخدمة لا يشجع الطلاب على الانخراط في هذه الكليات، ففي عام 1983 وصل عدد الطلاب الذين يدرسون هندسة البترول في الجامعات الأمريكية قمته وهو 11 ألف طالب، ليتراجع إلى 1700 فقط حاليا، كما تراجع عدد الجامعات التي تقدم كورسات في هذا المجال إلى 17، وهو نصف ما كان عليه الوضع من قبل. وفي تقدير لمعهد البترول الأمريكي فإن الصناعة تحتاج إلى خمسة آلاف مهندس و1300 جيوفيزيائي لمقابلة احتياجاتها خلال السنوات الخمس المقبلة.
وهناك أيضا سوق الحفارات التي أصبحت مثل حفل الكراسي الموسيقية بسبب حالة الضغط التي تعيشها، فعدد الحفارات تراجع من 4700 عام 1980 في الولايات المتحدة إلى 1500 الآن، ولهذا ارتفع سعر إيجار الحفارة قوة ألف حصان في اليوم إلى 15 ألف دولار من تسعة آلاف فقط قبل عام، وذلك لأنه لم يحدث إحلال يذكر.

الأكثر قراءة