من آداب السفر (1 من 2)

من آداب السفر (1 من 2)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وبعد:
فإن الناس لا ينفكون عن حاجتهم للسفر في مختلف أيام العام، ويزداد ذلك في أيام معينة، وللسفر آداب وأحكام، وتتعلق به عدد من المسائل، وهذا باب مهم تتكرر الحاجة إليه ويتأكد الاهتمام به، وقد جرت عادة العلماء أن يذكروه في فاتحة كتاب الحج، وهذا تلخيص لبعض تلكم الآداب، والله الموفق:
1ـ إذا أراد سفراً استحب أن يشاور من يثق بدينه وخبرته وعلمه في سفره، ويجب على المستشار النصيحة والتخلي من الهوى وحظوظ النفوس، قال الله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) وتظاهرت الأحاديث الصحيحة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانوا يشاورونه في أمورهم.
2ـ إذا عزم على السفر فالسنة أن يستخير الله تعالى فيصلي ركعتين من غير الفريضة، ثم يدعو بدعاء الاستخارة.
3ـ ينبغي أن يكون سفر المرء بعيداً عن المآثم، فيحذر من أن تكون وجهته إلا لما أباحه الله، قال الشيخ العلامة محمد بن عثيمين ـ رحمه الله ـ: إن سفر الإنسان إلى غير بلاد المسلمين يشترط له شروطٌ ثلاثة:
الأول: أن تكون ثمة حاجة ملحة تدعوه للسفر كعلاج لا يجده إلا هناك، وكمن يذهب للدراسة لعلمٍ لا يتوافر له في بلاد المسلمين، وكمن يذهب لمصلحة المسلمين كالسفراء والملحقين، وكمن يذهب للدعوة إلى الله، ونحو هذه الأمور.
الثاني: إذا قامت الحاجة الملحة لسفره فلا بد أن يكون عنده من العلم الشرعي ما يحميه من الشبهات أو الاغترار بالمناهج الكافرة.
الثالث: أن يكون لديه ورعٌ يحميه من الشهوات والانزلاق فيها.
4ـ إذا استقر عزمه على السفر فينبغي أن يبدأ بالتوبة من جميع المعاصي والمكروهات، ويخرج من مظالم الخلق، ويقضي ما أمكنه من ديونهم، ويرد الودائع، ويستحل كل من بَيْنَه وبينه معاملة في شيء أو مصاحبة، ويكتب وصيته، ويشهد عليه بها، ويوكل من يقضي ما لم يتمكن من قضائه من ديونه، ويترك لأهله ومن يلزمه نفقتُه نفقتَهم إلى حين رجوعه.
5 ـ في إرضاء والديه ومن يتوجه عليه بره وطاعته فيستأذنه، فإن أذن الوالدان وإلا أطاعهما بالمعروف.
6 ـ ينبغي أن يحرص أن تكون نفقته حلالاً خالصة من الشبهة، وخاصة إذا كان سفره لحج أو عمرة.
7 ـ يحسن من المسافر أن يكون معه من النفقة ما يكفيه حتى لا يكون عالة على غيره، ولكي ينفق في وجوه الخير والمحتاجين إذا عرض له ذلك.
8 ـ إذا أراد سفراً فجديرٌ به أن يتعلم ما يحتاج إليه في سفره، فإن كان لطاعة من حج وعمرة تعلم أحكامهما، وإن كان لبلاد يجهلها تعلم طبائع أهلها وتعرف على عاداتها وما عندهم من المسالك ليكون على بينة من أمره، وليكون أدعى للمحافظة على دينه وأخلاقه ونفسه. كما أن عليه أن يكون على علمٍ بما يجب من جهة الصلاة والطهارة في أحكام التيمم والمسح على الخفين والقصر والجمع والاتجاه للقبلة ونحو ذلك.
9 ـ يستحب له أن يطلب رفيقاً موافقاً راغباً في الخير كارهاً للشر، وإن تيسر كونه من أهل العلم فإنه نعمة وغنيمة، وأن يكون رفيقه حكيماً حليماً بشوشاً واسع الصدر، حتى لا تقع بينهما المماحكة والخلاف، فمن الأمور المشكلة أن يكون رفيقك في السفر مفتقداً لشيء من تلك الصفات، ولهذا قال أهل العلم: إنما سمي السفر سفراً لأنه يسفر عن أخلاق الرجال، أي يوضحها ويجليها.
10 ـ يستحب أن يكون سفره يوم الخميس، فإن فاته فيوم الإثنين، وأن يكون باكراً. ودليل الخميس حديث كعب بن مالك " أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خرج في غزوة تبوك يوم الخميس" رواه البخاري ومسلم، وفي رواية في الصحيحين: "كان يحب أن يخرج يوم الخميس".
ودليل يوم الإثنين: عنه " أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هاجر من مكة يوم الإثنين".
ودليل البكور: حديث صخر بن وداعة الغامدي رضي الله عنه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "اللهم بارك لأمتي في بكورها" وكان إذا بعث جيشاً أو سرية بعثهم في أول النهار، وكان صخر تاجراً فكان يبعث تجارته أوَّلَ النهار فأثرى وكثر ماله" رواه أبو داود والترمذي.
11 ـ يستحب أن يودع أهله وجيرانه وأصدقاءه وسائر أحبابه، وأن يودعوه، فعن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه كان يقول للرجل إذا أراد سفراً أدن مني أودعك كما كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يودعنا فيقول: "أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك" رواه الترمذي.
14 ـ من السنة أن يدعو بدعاء السفر، فعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "كان إذا استوى على بعيره خارجاً إلى سفر كبَّر ثلاثاً باسم الله ثم قال: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هَوِّن علينا سفرنا هذا، واطوِ عنا بُعْدَه، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل " وإذا رجع قالهن، وزاد فيهن: "آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون" رواه مسلم.
معنى مقرنين: مطيقين. والوعثاء: هي الشدة. والكآبة: ‎هي تغيير النفس من خوف ونحوه. والمنقلب: المرجع.
15 ـ يستحب أن يرافق في سفره جماعة لحديث ابن عمر قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لو أنَّ الناس يعلمون من الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده" رواه البخاري، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب" رواه أبو داود والترمذي والنسائي.
16 ـ إذا كان المسافرون ثلاثة فأكثر فينبغي أن يؤمِّروا عليهم أحدهم، لما رواه أبو داود وغيره عن أبي سعيد وأبي هريرة قالا: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إذا خرج ثلاثةٌ في سفر فليُؤمِّروا أحدهم".
17 ـ يستحب السير في آخر الليل لحديث أنس قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "عليكم بالدُّلجة فإن الأرض تطوى بالليل" رواه أبو داود بإسناد حسن، وفي رواية الحاكم: "فإن الأرض تطوى بالليل للمسافر".
وهذا مع وجود أسباب السلامة من أمن الطريق واستعداد المسافر وسلامة المركبة، وهذا لا يعارض ما جاء من الأمر بالبكور، فالبكور في إنشاء السفر وبدايته، وأما الدُّلجة وهو السير في آخر الليل فهو في أثنائه وخلاله.
18 ـ قال الإمام البيهقي: يكره السير في أول الليل لحديث جابر قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لا ترسلوا فواشيكم وصبيانكم إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء فإن الشياطين تنبعث إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء" رواه مسلم .
19 ـ ينبغي للمسافر أن يستعمل الرفق وحسن الخلق مع من يصاحبهم ويلتقي بهم وغيرهم، ويتجنب المخاصمة والمخاشنة ومزاحمة الناس في الطرق وغيرها، وأن يصون لسانه من الشتم والغيبة ولعنة الدواب وجميع الألفاظ القبيحة، ويرفق بالسائل والضعيف ولا ينهر أحداً منهم ولا يوبخه بل يواسيه بما تيسر، فإن لم يفعل رده رداً جميلاً، ودلائل هذه المسائل مشهورة في القرآن والأحاديث الصحيحة وإجماع المسلمين.
ولهذه الآداب تتمة في المقال اللاحق بعون الله.
أسأل الله الكريم أن يوفق الجميع لما فيه الخير، وأن يحفظ المسلمين في كل مكان بكل أنواع الحفظ، إنه سبحانه سميع مجيب.

[email protected]

الأكثر قراءة