المقاهي الأدبية .. انطلاقة سعودية لعناق القهوة والكتاب

المقاهي الأدبية .. انطلاقة سعودية لعناق القهوة والكتاب
المقاهي الأدبية .. انطلاقة سعودية لعناق القهوة والكتاب

قبل نحو ثلاثين عاما، كتب الشاعر الفلسطيني الراحل سميح القاسم مقترحا "متطرفا"، وهو أن يكون "المقهى الأدبي" أفضل الأساليب لتنظيم الأدباء، بفوضى محببة مبدعة!
استنتاج القاسم، النابع من تجربته الشخصية كرئيس لاتحاد الكتاب العرب ورئيس للاتحاد العام للكتاب العرب الفلسطينيين، الذي وثقه في مقال في مجلة "الناقد" عام 1991، جاء لأسباب عدة؛ فالمقهى الأدبي - بحسب الشاعر الراحل - لا يتطلب بطاقات عضوية موقعا عليها، ولا يستدعي العودة إلى الدستور للتأكد ما إذا كان الرئيس أو الأمين العام هو الذي يوقع على البطاقات، ولا يفرض دفع اشتراكات أكثر من ثمن فنجان القهوة أو كأس القهوة البابلية، ولا يتطلب عقد مؤتمرات واجتماعات لجان و"هلم جرجرة".

إطار أرقى

ظل المقهى الأدبي الإطار الأرقى لتطوير العملية الإبداعية، بالمبادلة والمناظرة والمراجحة والحوار، ومن داخل العملية الإبداعية ذاتها، وفي منأى ومنجى من الضغوط الرسمية والبريئة على السواء.
القاسم بحديثه هذا، كأنه يصف المقاهي الأدبية التي تنتشر في المنطقة العربية والعالم، وما تناله من حظوة وحب لدى الزوار على اختلاف تصنيفاتهم الفكرية، في حين أن المؤسسات الثقافية بحد ذاتها لا تنتج أدبا، كون الإبداع مسألة فردية ذاتية، منقطعة بفرديتها، موغلة في ذاتيتها، إنما من شأن الأطر التنظيمية إيجاد مناخ معين للعملية الإبداعية.

4 قرون من الإبداع

يقال إن القهوة دخلت مصر في القرن السادس عشر الميلادي، وإن صحت هذه الرواية، فيمكن التأكيد على أن المقاهي ظهرت في العالم العربي أواخر هذا القرن، أو بدايات القرن السابع عشر.
وبالطبع، كانت المقاهي تختلف في الشكل عما هي عليه الآن، إلا أن وظيفتها كانت الابتعاد عن ضغوط الحياة اليومية، والركون إلى الراحة والهدوء وصفاء الذهن، بيد أن ملامحها الثقافية بدت تتشكل شيئا فشيئا، إلى أن بلغت ذروتها الثقافية في القرن العشرين، حينما استقطب أصحاب هذه المقاهي رواة القصص والحكايات الشعبية، وصاروا يتنافسون فيما بينهم، ولمعت أسماء للرواة وبرزت، إذ يوصف بعضهم بـ "الهلالية"، لتخصصهم في سيرة أبي زيد الهلالي، أو "الظاهرية" لتخصصهم في سيرة الظاهر بيبرس، فيما كان هناك منشدون، وآخرون يعزفون على العود، ثم تطورت هذه المقاهي، وأصبحت تستضيف "المونولوجيست"، الذين يتناولون الحياة اليومية بأسلوب هزلي مرتجل، أو شاعر الربابة، والمغنين، أو المناظرات الشعرية.
تطورت المقاهي بمرور الأيام، وأصبحت ملتقى المثقفين والمبدعين، وأصبحوا بدورهم يناقشون فيها إبداعاتهم وحركة التأليف، وهموم الثقافة والفكر، أما بلاد الشام، ففيها كان المقهى ينتعش إذا كان راوي القصص أو "الحكواتي" بارعا، ذا صوت محبب، قادرا على صنع الحبكة والتشويق.

ندوة أدبية في مقهى

لعل القاهرة هي أكثر العواصم العربية احتضانا للمقاهي الأدبية الشهيرة، مثل مقهى الفيشاوي، ومن أشهر رواده الأديب الراحل نجيب محفوظ، أما الأديب حافظ إبراهيم فكان يفضل مقهى الكتبخانة. وكان يرتاد مقهى "متاتيا" الإمام محمد عبده، جمال الدين الأفغاني، سعد زغلول، عباس العقاد وعشرات المثقفين الذين لا يتسع المقام لذكرهم. ومن الجدير ذكره أن مقهى السنترال كان يستضيف ندوة أدبية لنجيب محفوظ كل يوم جمعة، الذي كان يستمد من المقاهي شخصيات رواياته. إلى بغداد، حيث شارع الرشيد، الذي يملك حصة الأسد من المقاهي الأدبية الشهيرة، مثل الشابندر، والزهاوي، والبرلمان، والبلدية، والمقهى الفني أم كلثوم، فكانت مجتمعة موئلا للفنانين والشعراء والمثقفين، فيما كان الشاعر الشهير معروف الرصافي يحيي احتفالات في مقهى عارف أغا. ومن المقاهي العراقية عرفت القصيدة العربية تطويرا وألوانا فريدة، ونظمت فيها قصائد شهيرة، كما خرجت من بين جدران هذه المقاهي معارض للرسم والفن التشكيلي. مقهى الزهاوي بدوره شهد عددا من السجالات والمناقشات الطريفة بين الشاعرين جميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي، التي شغلت الناس بأجوائها، وكانت تشكل حراكا ثقافيا، وفيه كتب الزهاوي نقدا في شعر عباس محمود العقاد.
وفي تونس، كان الشاعر الراحل محمد الشاذلي يرتاد مقهى القشاشين، فيما كان مقهى المرابط ومقهى زمارة ملتقى لرواد الأغنية التونسية. أما مقهى "الكمال" الدمشقي؛ فكان بمنزلة "منزل المثقفين" السوريين، دون أن ننسى مقهى الرشيد الذي كان حتى الخمسينيات مسرحا صيفيا.

مقاهي سحر الشرق

عرفت بيروت المقاهي الأدبية في ثلاثينيات القرن الماضي، ففي مقهى فيصل، الذي يقع في منطقة رأس بيروت، كان يجلس محمد الماغوط وثلة من المثقفين، وفي مقهى محلة الزيتونة - على شاطئ بيروت - كانت تناقش القضايا الفكرية، وكان يتردد عليه أمين الريحاني، وبشارة الخوري، وجميل معلوف، وفي منطقة الحمرا الشهيرة يقع مقهى "الهورس شو"، الذي أغلق وبكاه الأدباء.
ودون التوغل في المقاهي الأدبية في أوروبا، لعلنا نذكر هنا أن باريس هي مدينة المقاهي بلا منازع، ومنها خرجت تيارات فكرية وأدبية، وهو ما جعل المقاهي تهتم بالزخارف والمقتنيات التراثية، التي تهيئ المقهى ليكون متحفا تاريخيا، يروي حكايات، وتجعل منه تحفة بصرية.

مقاهي المملكة

في المملكة كانت انطلاقة المقاهي الأدبية متأخرة عن مثيلاتها في الوطن العربي، لظروف اجتماعية ودينية متفاوتة؛ مثل تحريم القهوة قبل نحو ثلاثة إلى أربعة قرون، ثم تحريم التدخين، وتحريم تعليم البنات، ومنع الاختلاط بين الجنسين، وإرهاصات الصحوة، إضافة إلى النظرة الاجتماعية لتلك المقاهي. برزت بضعة مقاه في جدة، بعد أن خرجت من عقدة النظرة الاجتماعية لزوار هذه المقاهي، مثل مقهى الحزام، ومقهى المها الذي يرتاده عادة الفنانين التشكيليين، ومقهى الأبراج على شاطئ الحمراء بالقرب من نادي جدة الأدبي، ويرتاده الروائيون والشعراء والفنانون حتى الرياضيين، ليصبح المقهى أكثر من مجرد كوب قهوة.
واليوم باتت الرياض تتباهى بمقاه أدبية حديثة أصبحت ملاذا للمثقفين، ويلاحظ زائرها توافر الكتب للشراء والاطلاع، حتى أصبحت نقطة التقاء بين الكاتب والقراء على اختلاف فئاتهم، ومنصة لإطلاق الكتب والنوادي والمشاريع الثقافية، ولو جاءت متأخرة.