منها قطار الحرمين .. إسبانيا الثانية عالميا في مشاريع البنى الأساسية
المنطقة الريفية الواقعة حول بلدة ريفابيلوسا الصغيرة شمالي إسبانيا غنية بالخضرة الكثيفة، ومورقة بفضل الأمطار المتواصلة، وهي محاطة بأشجار الزان والصنوبر والبلوط، إنها بعيدة كل البعد عن صحارى السعودية.
لكن هنا هو المكان الذي تمت فيه صناعة قطارات الخط السريع بين الأماكن المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة في السعودية من قبل شركة إسبانية متوسطة الحجم تعمل في وسائط النقل المتحركة اسمها "تالجو"، تتخذ من إقليم باسك في إسبانيا مقرا لها.
يقول كارلوس بالاسيو أوريول، رئيس مجلس إدراة الشركة، إنهم لم يعتادوا على تصميم عربات من غير المعتاد أن يصمموا عربات قطار أحد أكبر التحديات فيها هو منع حبيبات الرمل الناعمة من التسلل عبر الأبواب، وتابع ضاحكا "الرمال ليست مشكلة كبيرة هنا".
هذا الاختبار الهندسي يسلّط الضوء على التحول في وضع الشركات الإسبانية في السنوات الأخيرة: أصبحت شركات البنية التحتية الإسبانية قوة مهيمنة في مشاريع البناء العالمية الضخمة، فهي من حيث الحجم والقوة في المرتبة الثانية بعد الصين.
تشهد شركات البناء والامتياز، مثل "فيروفيال"، و"أكسيونا"، و"أي سي إس"، ازدهارا كبيرا في الأسواق الدولية، التي تشهد بدورها نموا منتظما في الإنفاق على البنية التحتية وسط اتجاهات طويلة الأجل مثل التوسع الحضري والنمو السكاني.
يأتي هذا على الرغم من أن الاقتصاد المحلي لا يزال يشعر بآثار أزمة الإسكان والركود العميق، الذي حدث في الفترة من 2009 إلى 2013، مكلفا الملايين وظائفهم وتاركا إسبانيا غارقة في الديون، بينما البلاد تعيش في بيئة سياسية ممزقة ومقسمة في ظل حكومة أقلية ضعيفة.
مشروع القطار السريع بين مكة المكرمة والمدينة المنورة الذي فاز به اتحاد مكون من 12 شركة إسبانية، بما فيها تالجو، هو أحد تلك المشاريع الكبيرة التي قادتها شركات إسبانية. وهي تشمل أيضا مشروع توسعة قناة بنما، و"كروس ريل" في لندن، و"سيدني لايت ريل"، وكذلك مشاريع قطارات الأنفاق في الرياض، والدوحة، والعاصمة البيروفية، ليما.
بشكل عام، بلغ حجم العائد السنوي من المشاريع الدولية لأفضل 11 شركة بناء إسبانية العام الماضي نحو 60 مليار يورو، أي أكثر من 50 في المائة من الشركات الأمريكية والفرنسية، وتقريباً ضعف عائد الإيطالية والكورية الجنوبية، وفقاً لبيانات من "إنجنيرينج نيوز ريكورد". فقط الشركات الصينية أنجزت أعمالا أكثر في الخارج حققت نحو 100 مليار يورو تقريباً.
قال أوفيدو تورادو، رئيس قسم البنية التحتية في شركة كيه بي إم جي الاستشارية في إسبانيا "شركات البنية التحتية الإسبانية أصبحت ناجحة إلى حد كبير على الصعيد الدولي. الأزمة المحلية في إسبانيا أجبرتهم على الخروج إلى العالم، حيث ازدهروا".
بداية قصة النجاح العالمي للشركات الإسبانية في مجال البنية التحتية والامتياز تعود إلى الأيام الطيبة في أواخر التسعينيات ومطلع العقد الأول من القرن الـ21، عندما كانت الأموال رخيصة وكانت الحكومة الإسبانية في مرحلة من الإنفاق.
في تلك الفترة بنت إسبانيا ثاني أطول شبكة للسكك الحديدية عالية السرعة في العالم، وكانت الحكومة تتباهى بالطرق العمومية ذات الرسوم. على صعيد البناء المحلي، استأثرت إسبانيا في عام 2007 بمبان سكنية جديدة أكثر من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا مجتمعة.
واستنادا إلى عدد من الدراسات، تم إنفاق كثير من تلك الأموال بشكل غير فعال.
في حزيران (يونيو) أورد تقرير صادر عن جمعية الجغرافيين الإسبان، أن الجهات الحكومية أنفقت بين عامي 1995 و2016 أكثر من 81 مليار يورو على "بنية تحتية غير الضرورية، أو مهجورة، أو غير مستغلة بكفاءة، أو تم تخطيطها بشكل سيئ".
لكن سواء كان الإنفاق بشكل فعال أو غير فعال، كان حجمه الهائل بمنزلة نعمة لقطاع البناء الإسباني. فأكثرهم حذراً استخدموا خبراتهم الجديدة وأموالهم المحلية لبدء التوسع في الخارج والتنافس عالميا على المشروعات الكبيرة.
لويس كاستيلا، رئيس البنية التحتية في "إكسيونا"، إحدى الشركات الرائدة في مجال البناء في إسبانيا، لاحظ أن "الشركات الإسبانية اكتسبت مهارة قيمة في الوطن من خلال تطوير مشروعات في تلك السنوات، التي بلغ فيها الاستثمار في البنية التحتية الجديدة ذروته".
الشركات مثل أكسيونا، إضافة إلى فيروفيال، المالك الأكبر لمطار هيثرو في المملكة المتحدة، و"أي سي إس"، التي تملك شركة البناء الألمانية هوشتيف، بذلت جميعها جهودا كبيرة لتوسيع نشاطها في الخارج في مجال البناء والامتياز، من خلال مشاريع تجارية متنوعة.
على الصعيد المحلي، انقلب قطاع البناء في إسبانيا رأساً على عقب بدءا من عام 2007، عندما أدت الأزمة المالية إلى انفجار فقاعة الإسكان وإلى وأزمة مصرفية حادة. حينها توقف بناء المنازل الجديدة تقريبا، وكذلك الإنفاق الحكومي على البنية التحتية.
بالنسبة لأولئك الذين نجوا، جعلهم هذا في نهاية المطاف أقوى، كما يقول محللون ومسؤولون تنفيذيون. أفلست بعض الشركات، ولا سيما الشركات الوطنية البحتة، لكن تلك التي استمرت خرجت من الجانب الآخر بأقل الديون، وأصغر حجماً، وتتسم بطابع دولي أعم.
إيينيجو ميراس، الرئيس التنفيذي لـ "فيروفيال"، إحدى أكبر الشركات في البلاد التي لديها أعمال كبيرة في المملكة المتحدة والولايات المتحدة وكندا وأستراليا وبولندا، اعتبر "الإرث الذي تركته الأزمة (المالية) هو أن أكبر مجموعة للبنية التحتية في إسبانيا أعادت تركيزها على السوق الدولية".
وأوضح أن شركة فيروفيال كان لديها في ذروة السوق الإسبانية في عام 2007، عائدات بقيمة 3.6 مليار يورو في إسبانيا، بالدرجة الأولى من بناء المنازل والأعمال المدنية. اليوم انخفضت إيراداتها من مشاريع البناء في إسبانيا 80 في المائة إلى 600 مليون يورو فقط.
وقال "في اليوم الأول، قلنا لأنفسنا هذه الإيرادات لن تعود أبدا (...) كنا نعلم أنه كان علينا مضاعفة تركيزنا على الأسواق الدولية". وتحصل فيروفيال اليوم على 77 في المائة من إيراداتها من خارج إسبانيا، مع استثمارات كبيرة في البناء، إضافة إلى الامتيازات. وارتفع صافي الأرباح 21 في المائة في عام 2017 مقارنة بالعام السابق، ليصل إلى 454 مليون يورو.
ويروي كاستيلا، من "أكسيونا" قصة مماثلة حول التدويل، مضيفًا أن صدمة الأزمة أجبرتهم أيضًا على تقليص التكاليف ومستويات الديون. "أحد الآثار الجانبية الجيدة للأزمة المالية هو أنها أجبرتنا على أن نصبح أكثر كفاءة بكثير - في استخدامنا لرأس المال، وفي أساليب البناء لدينا، وفي مناقصاتنا".
وبحسب خافيير بارادا، الشريك المسؤول عن صناعة الهندسة والتشييد العالمية في شركة ديلويت "الشركات الإسبانية خفضت بشكل كبير المديونية على مدى السنوات القليلة الماضية".
لكن على الرغم من حجمها وسجلها لا تزال الشركات الإسبانية تواجه تحديات في الأسواق الدولية.
وفقا لجوليان نونيز، رئيس مجموعة سيوبان الصناعية الإسبانية للبناء والامتياز، من الصعب بشكل متزايد بالنسبة لهم وللاعبين الأوروبيين الآخرين التنافس بفعالية مع الشركات الآسيوية في آسيا وإفريقيا بسبب الافتقار النسبي إلى الدعم الحكومي.
وحث المفوضية الأوروبية وبنك الاستثمار الأوروبي على المساعدة على التمويل خارج أوروبا، قائلا: "الشركات الآسيوية تحظى بدعم كبير من حكوماتها ووكالات ائتمان التصدير التي تجعل من الصعب للغاية منافستها في ظل ظروف متساوية".
لكن بغض النظر عن المنافسة الشرسة، الشركات الإسبانية في سوق ضخمة ومتنامية. في العام الماضي صدر تقرير عن مركز البنية التحتية العالمي، المدعوم من مجموعة العشرين، يقول إن هناك حاجة إلى استثمار في البنية التحتية العالمية 94 ألف مليار دولار بحلول عام 2040، ما يعادل 3.5 في المائة من النمو سنويا لتلبية الطلب.
قال باتريك كروسيت، محلل النقل والبنية التحتية في جولدمان ساكس "من الواضح أن هناك حاجة عالمية هائلة لمزيد من البنية التحتية، خاصة في مجال النقل. إذا نظرت إلى أمريكا الشمالية وحدها، فإن الاحتياجات مهمة ... هذه فرصة للشركات الإسبانية الرائدة وغيرها من الشركات الأوروبية".