تركيا .. متاعب الليرة إحدى نتائج استيلاء أردوغان على السلطة

تركيا .. متاعب الليرة إحدى نتائج استيلاء أردوغان على السلطة

وفقا لمسؤول تركي رفيع المستوى، حتى الربيع الماضي لم يكن رجب طيب أردوغان قد سمع أبدا عن قس من كارولينا الشمالية يدعى أندرو برونسون. كان ذلك خلال إحاطة إعلامية قبل زيارة إلى البيت الأبيض، حسبما يدعي المسؤول، حينها صادف الرئيس التركي لأول مرة اسم الداعية الإنجيلي الذي علِق في النظام القضائي التركي، الذي تسبب مصيره في انهيار دبلوماسي، ما قذف بتركيا في أزمة عملة وأثار مخاوف من عدوى عالمية.
يقول المسؤول، "الفكرة القائلة إنه مسؤول بشكل ما عن كل حالة من هذا القبيل هي فكرة مثيرة للسخرية".
يستخدم هذا الشخص المطلع من الحكومة هذه القصة لتحدي فكرة أن أردوغان – الذي يهيمن على السياسة التركية منذ 16 عاما، والذي أصبح في حزيران (يونيو) يتمتع بسلطات تنفيذية قوية جديدة – يمتلك السلطة على كل مؤسسة في البلاد.
مع ذلك، هذه هي بالضبط التهمة الموجهة ضده من قبل خصومه. في الواقع يجادلون بأن كثيرا من الأسباب الجذرية للاضطرابات التي تعصف بالبلاد يمكن إرجاعها إلى التآكل المستمر لمؤسساتها، وتجاهل حكم القانون، وتركيز السلطة في يد رجل واحد.
يقول فاروق لوجوغلو، وهو سفير تركي سابق في واشنطن وعضو بارز في حزب المعارضة الرئيس، "قضية القس برونسون ليست سوى مثال واحد على الطبيعة المختلة للنظام القضائي التركي". اتهم برونسون بالتجسس وتحريض الإرهابيين – وهي اتهامات وصفها بـ "التشهير". وقال، "لو كانت هناك محاكمة سريعة، ومحاكمة مناسبة، ربما كان سيدان – لا أعرف. لكن القضية كانت ستغلق".
دارون عاصم أوغلو، الخبير الاقتصادي في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا MIT والمؤلف المشارك لكتاب "لماذا تفشل الأمم"، يجادل بأن أزمة العملة التي أدت إلى فقدان الليرة ثلث قيمتها مقابل الدولار هذا العام، تكمن أيضا في تفريغ وإضعاف الهيئات التي من قبيل البنك المركزي. يقول عاصم أوغلو إنها حيوية "لإيجاد النوع الصحيح من الديناميكية الاقتصادية وإنشاء الواقيات ضد أي نوع من التقلبات". ويضيف، "الواقيات ليست موجودة في الحالة التركية".
ومن العلامات الدالة على تركيز السلطة الذي حدث، أن المسؤول المفترض فيه معالجة الاضطرابات الاقتصادية المستمرة خلال الأسبوعين الماضيين هو الرجل الذي عينه أردوغان في الشهر الماضي ليكون وزيرا للمالية والاقتصاد – صهره الذي يبلغ من العمر 40 عاما، بيرات البيرق.
كانت الليرة تتراجع باستمرار هذا العام حتى قبل الأزمة التي اندلعت عندما أعلن دونالد ترمب فرض عقوبات في بداية آب (أغسطس) على دولة عضو في حلف شمال الأطلسي، في محاولة لإجبار تركيا على الإفراج عن القس المعتقل. لكن التقلبات الشديدة منذ بدء الخلاف الحاد، التي أدت إلى انخفاض الليرة 17 في المائة خلال يوم واحد، أثارت الفوضى.
امتلأت المستودعات بالمخزون في الوقت الذي كانت فيه الشركات تصارع من أجل تحديد الأسعار. وألغت العائلات العطلات، لأنها لم تعد قادرة على شراء اليورو. حتى أن أندية كرة القدم التركية تأثرت، بصدى للمشكلات التي تواجه الشركات التركية التي تعترك مع ديونها بالعملات الأجنبية. وقال تنفيذي في أحد أكبر الفرق في البلاد، "رواتب اللاعبين الكبار تكلف مليوني يورو أو ثلاثة ملايين يورو سنويا. وجميع إيراداتنا بالليرة",
لسنوات كانت تركيا تعد من قبل بعض المستثمرين على أنها قصة نجاح. سعى أردوغان الذي تقلد حزبه، العدالة والتنمية، السلطة في عام 2002، إلى حماية حزبه من العلمانيين المعارضين لجذوره الإسلامية، من خلال طرح نفسه على أنه مصلح ديمقراطي ومؤيد لقطاع الأعمال ومنفتح على الغرب.
حتى نقاد حزب العدالة والتنمية يعترفون بأن الحكومة سمحت في السنوات الأولى بفتح نقاش مزدهر حول الأقليات وقدمت لفتات إلى الاتحاد الأوروبي. وخفضت التضخم الذي كان يبلغ 45 في المائة في العام الذي تسلم فيه أردوغان السلطة وفرض الانضباط في المالية العامة. تدفقت الأموال. وفي ذروته عام 2007، بلغ الاستثمار الأجنبي المباشر 22 مليار دولار. بالتالي استحدث الاقتصاد وظائف وحقق ازدهارا جديدا للملايين، لا سيما الذين ينتمون إلى القطاعات الفقيرة أو الأكثر تهميشا.
لكن مع مرور الوقت، واجه أردوغان اتهامات بتزايد الاستبداد وعدم التسامح تجاه من هم خارج قاعدة دعمه الأساسية. بعد أن شجعته انتصارات متتالية في الانتخابات واهتز نتيجة محاولات الإطاحة به من قبل الجيش والمحاكم، انتقل إلى تشديد قبضته.
يقول النقاد إن حله للمؤسسات المسيّسة في تركيا كان بملئها بأشخاص تابعين له. ويعترف أردوغان نفسه بأنه مكن حركة جولن، وهي شبكة سرية من أتباع رجل دين تركي، ما سمح بالترويج السريع لأعضائه في الشرطة والمحاكم والقوات المسلحة. وفي وقت لاحق اختلف أردوغان مع جولن وأُلقي باللوم عليه في الانقلاب العنيف في عام 2016 على جولن وحركته، ما دفع إلى عملية تطهير واسعة أسفرت عن تسريح 130 ألف شخص من وظائفهم في الدولة.

مكمن العلة
بمرور الوقت، بدأ الانضباط الاقتصادي أيضا في التفكك. أردوغان الذي واجه منذ عام 2007 تسعة انتخابات محلية، أو برلمانية، أو رئاسية وثلاثة استفتاءات، تجاهل الدعوات لإجراء إصلاحات جديدة ودفع بدلا من ذلك نحو النمو الذي يجلب له الأصوات. وباستثناء عام 2008 - 2009، بلغ معدل نمو إجمالي الناتج المحلي في المتوسط 7 في المائة.
لكن خلال العقد الماضي كان كثير من النمو مدعوما بالنقد الذي غمر الأسواق بعد الأزمة المالية العالمية. وبدلا من تمويل الاستثمارات في القطاعات الإنتاجية ذات التكنولوجيا العالية التي يمكن أن تعزز صادرات تركيا، تم توجيه الأموال بشكل رئيس إلى البناء والاستهلاك. وفقا لمجلس مراكز التسوق في تركيا، عندما تولى أردوغان السلطة كان هناك 53 مركز تسوق في البلاد. اليوم الرقم يبلغ 403.
إحدى النتائج لذلك هي زيادة التضخم. النتيجة الأخرى طفرة في الواردات تسببت في عجز تجاري أكبر يحتاج تمويله إلى تدفقات الأموال الأجنبية. ومع انخفاض الاستثمار الأجنبي المباشر بشكل حاد في السنوات الأخيرة، بات معظم هذا التمويل يأتي من تدفقات "الأموال الساخنة" التي يمكن أن تغير الاتجاه في أي لحظة.
هذه العوامل جعلت تركيا واحدة من الاقتصادات الأكثر تأثرا بارتفاع أسعار الفائدة في الوقت الذي شرع فيه الاحتياطي الفيدرالي والبنوك المركزية الأخرى في تفكيك عقد من التحفيز النقدي.
خلال جزء كبير من العقد الماضي ساعد وجود أشخاص مثل محمد سيمسك، وهو مصرفي سابق في بنك ميريل لينش، تولى حقيبة المالية من عام 2009 حتى صيف هذا العام، في تهدئة مخاوف المستثمرين. بيد أن المطلعين على شؤون الحزب يقولون إن أردوغان أصبح على مر السنين أكثر استبدادا وأكثر مرضا بجنون العظمة ويحيط نفسه بشكل متزايد بالموالين وأفراد الأسرة. في الشهر الماضي، وبعد فوزه بخمس سنوات أخرى في منصبه، غادر سيمسك الحكومة، وعين أردوغان صهره مسؤولا عن الاقتصاد.
ثم جاءت صدمة ضخمة للنظام مع الإعلان عن فرض عقوبات أمريكية على تركيا مع تصاعد التوترات بين البلدين إلى ذروتها. وبينما كان ترمب وأردوغان يتصارعان، عانت الأصول التركية من عمليات بيع مكثفة. على الرغم من أن الليرة استعادت بعض الثبات من أدنى نقطة لها، إلا أنها انخفضت 38 في المائة مقابل الدولار منذ بداية العام.
طالب المستثمرون برفع أسعار الفائدة بشكل كبير لإيقاف الأزمة. لكن أردوغان أكد علنا معارضته لأسعار الفائدة العالية، مستهزئا بها على اعتبار أنها "أداة للاستغلال".
يعتقد المحللون أن نفوذ أردوغان توسع مع ازدياد صلاحياته. في أيار (مايو)، أثار أزمة عملة صغيرة من خلال إخبار الممولين في لندن أنه سيسيطر بشكل أكبر على السياسة النقدية بعد الانتخابات الوشيكة. وأدى فوزه في انتخابات حزيران (يونيو) إلى الانتقال إلى نظام رئاسي تنفيذي جديد يمنحه السلطة لتعيين محافظ البنك المركزي مباشرة.
يقول داني رودريك، وهو اقتصادي تركي في جامعة هارفارد، إن المشكلة ليست في السلطوية بحد ذاتها، بالنظر إلى أن بعض الدول الاستبدادية لديها اقتصادات جيدة الإدارة. إن القضية هي "إخضاع كل جانب من جوانب الحوكمة إلى التعظيم السياسي لرجل واحد، بصرف النظر عما يمكن أن يحدث".

درس روسي
أوزجور يسار جويولدار، رئيس مبيعات الأسواق الناشئة في رايفايزن سنتروبانك في النمسا، يعقد مقارنة مع روسيا، حيث "أبقى الرئيس فلاديمير بوتين على قناعته التامة" بمحافظة البنك المركزي وسمح لها باتخاذ خطوات ضد التضخم. لذلك حقق الروبل المحاصر أداءً أفضل من الليرة التركية منذ آذار (مارس) 2014، على الرغم من فرض العقوبات الأمريكية منذ ذلك التاريخ. يقول جويولدار إن على تركيا أن تتعلم من تجربة روسيا.
ويتساءل آخرون عما إذا كانت تركيا لديها أهل الخبرة القادرون على التعامل مع الأزمة. ويقولون إن التسييس المستمر للمؤسسات، الذي تسارع بعد المحاولة الانقلابية، أضر بقدراتها على الاستجابة لما هو غير متوقع.
ولفانجو بيكولي، الرئيس المشارك لشركة تينيو الاستشارية، يعتقد أن الكفاءة المؤسسية انخفضت. ويقول، "في بيئة تحتاج فيها إلى خطة متعددة السنوات وذات صدقية (لمعالجة الأزمة)، هناك علامة استفهام حول ما إذا كان لدى تركيا الأشخاص المناسبون في المنصب لوضع هذه الخطة".
وتشعر الحكومة باستياء شديد من الانتقادات الموجهة لعملية التطهير. يقول مسؤولو الحزب الحاكم إنهم واجهوا سلسلة من التهديدات غير العادية. وزير الخارجية، مولود أوغلو، قال الشهر الماضي إن الأوروبيين لا يزالون "لا يفهمون تماما" الصدمة التي مرت بها تركيا أثناء محاولة الانقلاب.
بعض البيروقراطيين الموهوبين إلى درجة عالية لا يزالون بالتأكيد في مناصبهم، مثلا الذين يتعاملون بانتظام مع الوزارات والوكالات. في الأسبوع الماضي سعى الجهاز التنظيمي للمصارف إلى بديل إبداعي لرفع سعر الفائدة عن طريق الحد من البيع على المكشوف – وهو إجراء ساعد على ارتفاع الليرة لمدة ثلاثة أيام. لكن المستثمرين يقولون إن مثل هذه الإجراءات ليست سوى ضمادة خفيفة لسد الجرح. يوم الجمعة تعرضت العملة لضغوط جديدة وسط تزايد المخاوف من فرض مزيد من العقوبات الأمريكية.
رد أردوغان على أحداث الأسابيع الأخيرة باتهام ترمب بشن "حرب اقتصادية" ضد حليف، وهو اتهام ينسجم بدقة مع روايته الطويلة بأن القوى الغربية تحاول تدمير البلاد. ويجادل عاصم أوغلو بأن إحدى المفارقات في الإجراءات القوية من الرئيس الأمريكي هي أن الرئيس التركي لديه الآن كبش فداء لأزمة يعتبرها بعض الاقتصاديين إلى حد كبير ناتجة عن إيذاء الذات. ويقول، "ما يحدث يصب في صالح اللغة التي يستخدمها أردوغان".