4 عوامل توجه أسعار الغاز الطبيعي في الأسواق العالمية

4 عوامل توجه أسعار الغاز الطبيعي في الأسواق العالمية

4 عوامل توجه أسعار الغاز الطبيعي في الأسواق العالمية

شهدت الأسواق العالمية للغاز الطبيعي خلال عام 2007 حالة من عدم الاستقرار، حيث تراوحت الأسعار في أوروبا على سبيل المثال بين 3.5 و11 دولارا لكل مليون وحدة حرارية بريطانية. كما أن الإنتاج الأوروبي، خاصة من بحر الشمال، بدأ في النقصان، وكذلك الإنتاج الأمريكي الذي أصبح لا يتناسب مع حجم الطلب. فعلى سبيل المثال نقص الإنتاج البريطاني من الغاز الطبيعي من بحر الشمال 12 في المائة عن السنة الماضية، ما أوعز للإنجليز بالاعتماد على الشراء المباشر للغاز الطبيعي المسال لسد النقص. وتمر الولايات المتحدة بالظروف نفسها، ويكفي أن نعلم أن أسعار الغاز الطبيعي في الولايات المتحدة (على سبيل المثال، وهي أكبر مستهلك للغاز الطبيعي في العالم) تزداد سنوياً بنحو 3 في المائة، بينما تزداد إمدادات الغاز الطبيعي في الولايات المتحدة بنسبة 1 في المائة (يبين الشكل ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي التاريخي في بورصة نايمكس الأمريكية خلال سنة بأكثر من 30 في المائة). ويبدو أن أسعار الغاز تزداد سنوياً بمعدل يزيد عن معدل الزيادة في الإمدادات.
وبدأت الصحف الإنجليزية تتخوف من مستقبل إمدادات الغاز الطبيعي، خاصة أن الشراء المباشر لا يمكن التنبؤ بأسعاره وكمياته، حتى أن ناقلة كانت تحمل شحنة من الغاز الطبيعي المسال وكانت في طريقها من الجزائر إلى بريطانيا لكنها غيرت وجهتها فجأة إلى تركيا التي دفعت ضعف السعر بسبب انقطاع الغاز الإيراني عن تركيا في ذلك الوقت.
كل هذه الأمور جعلت الغرب يتوجس الخوف خشية نقص إمدادات الغاز الطبيعي، خاصة أنه لا توجد بورصات عالمية تتحكم في الأسعار والكميات. لم يكن هذا التخوف موجوداً قبل عام 2004، حيث إن أسعار النفط ومشتقاته لم تكن لترتفع إلى المستويات التاريخية التي شهدها العالم في أعقاب غزو العراق، التي صاحبها أيضا طفرة هائلة في الطلب على الطاقة في كل من الصين والهند، حيث كان بالإمكان قبل عام 2004 استخدام النفط أو أحد مشتقاته في توليد الطاقة، ما أوجد بدائل ومنافسا قويا وحقيقيا للغاز الطبيعي، وعليه تراوح سعر المليون وحدة حرارية من الغاز الطبيعي المسال نحو ثلاثة دولارات في كل من أوروبا والولايات المتحدة في تلك الفترة.
ومع زيادة الاهتمام العالمي بالغاز الطبيعي كمصدر رئيس للطاقة النظيفة ورافد أساسي للصناعات البتروكيماوية، يتبادر إلى الأذهان عدة أسئلة في غاية الأهمية، وهو: كيف يتم التجارة بالغاز الطبيعي؟ وكيف يتم تحديد أسعاره في العالم؟ وهل توجد بورصات عالمية يتداول من خلالها الغاز الطبيعي؟
تؤثر طبيعة الغاز الطبيعي الغازية على عملية نقله وتخزينه وتجعلها في غاية الصعوبة، ومن أجل ذلك نجد أنه لا توجد سوق عالمية للغاز الطبيعي، مثلما هو الحال بالنسبة للزيت الخام، حيث توجد أسعار قياسية للزيت الخام مثل "برنت"، "العربي الخفيف"، و"غرب تكساس"، وكلها تستخدم كمؤشر في تحديد أسعار بيع الزيت الخام وشرائه، والتي لا ترتبط بعقود طويلة الأجل.
وعلى الجانب الآخر فإن أسعار الغاز الطبيعي يتم تحديدها من خلال عقود طويلة الأجل بما يضمن تأمين الأموال الضرورية لإقامة المشاريع، ويضمن أيضا استرداد الاستثمارات الباهظة لمشاريع الغاز، سواء من خلال تصديرها عبر الأنابيب أو عن طريق الإسالة LNG.
ويجب أن نعلم أن عقود تصدير الغاز من أي دولة منتجة لا تعكس سعراً عالمياً موحداً لهذه السلعة، وعليه ليس بالضرورة أن يباع الغاز الروسي إلى أوروبا بنفس أسعار الغاز الجزائري المنقول أيضا عبر الأنابيب إلى أوروبا، بل يتم تحديد كل سعر عبر التفاوض المباشر بين الشركات، وتبقى تكلفة الحفر والإنتاج والنقل والمعالجة من الكبريت وإزالة الشوائب الأخرى كبخار الماء والتوزيع أهم العوامل المؤثرة في تحديد التكلفة الرئيسية لإنتاج الغاز، التي تقدر الآن مع الارتفاع الكبير بالأسعار بنحو خمسة إلى سبعة دولارات لكل مليون وحدة حرارية بحسب منطقة الإنتاج. وبعد تحديد الكلفة النهائية للإنتاج يقوم المصدّر بوضع هوامش الربح المقبولة له وللمشتري، وفي ضوئها يتم الاتفاق على أسعار الشراء النهائية.
وتعتمد الأسعار أيضا على طول الأنابيب وعلى عدد الدول التي تمر عبرها، لا سيما وأن الدول تطلب رسوما معينة على مرور الغاز (ترانزيت) عبر أراضيها. فعلى سبيل المثال تطلب أوكرانيا، التي يمر عبر أراضيها 80 في المائة من الغاز الروسي المتجه إلى أوروبا، نحو 15 في المائة من كمية أو قيمة الغاز الذي يمر عبر أراضيها، ولقد رفعت الرسوم من 1.6 إلى 1.7 دولار لكل 1000 متر مكعب من الغاز لكل مائة كيلو متر.
وتعتبر أسعار النفط العالمية أحد أهم المراجع في عملية تسعير العقود، حيث قد توضع بطريقة معادلة حسابية تأخذ في الاعتبار التغير الدائم والمستمر بأسعار النفط العالمية وأسعار أحد مشتقات النفط كالنافثا أو غاز البترول المسال LNG.
وتعتمد الجدوى الاقتصادية لمشاريع تصدير الغاز الطبيعي على عدة عوامل، منها اختلاف الأسواق والعرض والطلب بين منطقة وأخرى (أسواق آسيا والمحيط الهادي تختلف عن الأسواق الأوروبية والأمريكية، أما أسواق الشرق الأوسط فلا يمكن تحليلها بالمنطق نفسه وذلك لوجود دعم كبير من الحكومات)، وكذلك توافر الوقود البديل (مثل إمكانية استخدام الطاقة النووية، وهو ما قد يؤثر في الطلب على الطاقة) والتنافس في أنحاء العالم المختلفة، وكل هذا يؤدي إلى اختلاف أسعار الغاز الطبيعي العالمية.
أما لماذا ترتبط تجارة الغاز الطبيعي بعقود طويلة الأجل، فالجواب يكمن في التكلفة الباهظة لعملية إنتاج الغاز ونقله. فلو أخذنا الغاز الطبيعي في الجزائر كمثال لوجدنا أن الجزائر تصدره باستخدام خطين من الأنابيب، الأول يمر عبر تونس ثم يعبر البحر المتوسط ليصل إلى إيطاليا، ويبلغ طوله نحو 1100 كيلو متر، والآخر يبلغ طوله نحو 1600 كيلو متر يمر عبر المغرب ومن ثم مضيق جبل طارق ليصل إلى إسبانيا والبرتغال.
وعليه، ومن أجل إقامة مشاريع تصدير الغاز الجزائري لأوروبا، لا بد من إنشاء خطوط الأنابيب هذه مما رفع تكلفة الاستثمار في مثل هذه المشاريع وأوجد الحاجة إلى الاقتراض لإنشاء هذه الخطوط أو تكليف شركة مستقلة لإقامتها، وفي كلتا الحالتين لا بد من تقديم عهود وضمانات للبنوك المقرضة أو للشركات التي سوف تنشئ الأنابيب لاسترجاع استثماراتها مع هامش معقول من الربح، ويتم هذا الأمر من خلال توقيع عقود طويلة الأجل تستغرق في بعض الأحيان نحو 25 سنة، إذ إنه من الممكن بعد إنشاء خطوط الأنابيب باستثمارات تقارب بضعة مليارات دولار أن يختلف مصدّر الغاز ومستورده على تسعير أو كميات الغاز، أو أن يكون الاختلاف بسبب بعض الأمور الجيوسياسية، حيث إنه في كثير من الأحيان تمر الأنابيب في كثير من الدول المتجاورة، كل هذا قد يتسبب في توقف تصدير الغاز وتبقى الأنابيب خالية، ومن هنا نستطيع أن نفهم سبب العقود طويلة الأجل في تصدير الغاز، حيث إنه لن تقوم أي شركة استثمارية أو بنك بتمويل إنشاء خط أنابيب طويل يمر عبر دول مختلفة إلا بوجود عقود طويلة الأمد يضمن تدفق الغاز في الأنابيب التي أنشأتها وأنفقت الكثير لمدها.
ومن الأمثلة الراهنة على مدى صعوبة وتعقيد آلية تسعير عقود الغاز الطبيعي أن شركة دانة غاز الإماراتية ما زالت تتفاوض لحل خلافها مع إيران على سعر وكميات الغاز المزمع نقله من حقل سلمان البحري، حيث تم مد الأنابيب اللازمة بطول نحو 100 كيلو متر، ولم يصل الطرفان إلى اتفاق نهائي بالرغم من توقيع مذكرات التفاهم. ولكن في الوقت نفسه وقعت إيران وسويسرا في الفترة الأخيرة عقداً طويل الأمد لتوريد الغاز الطبيعي الإيراني إلى سويسرا عبر شبكة طويلة من الأنابيب قد يتراوح طولها عدة آلاف من الكيلومترات، وستمر عبر تركيا واليونان وإيطاليا.
يجب أن نتذكر أن المفاوضات وتوقيع مذكرات التفاهم بين دانة غاز والجانب الإيراني حصلت قبل بضع سنوات، وقد تكون مبنية على أساس أسعار النفط المتدنية (أقل من 40 دولارا للبرميل، وأما الاتفاق مع سويسرا فهو حديث يرتبط بأسعار النفط المرتفعة والتي بلا شك مرضية لإيران). وعلى هذا الأساس يمكن القول إن المفاوضات في عقود الغاز ترتبط بتقييم ظروف السوق في حينه من حيث العرض والطلب وأسعار النفط والعائد على الاستثمار والفرص البديلة وحجم المخاطرة، ولذلك تختلف الشروط والأسعار من عقد إلى آخر.

* خبير في شؤون تكرير النفط والبتروكيماويات

الأكثر قراءة