التوحديون في غربة

التوحديون في غربة

مع كل صباح مشرق نتفاءل أكثر ونحمد الله الذي وهبنا الحياة ونعماً لا تحصى وسخر الله أناسا لخدمة أناس وكتب لكل إنسان رزقه وسيره لطريقه الذي كتب له.
الحياة من حولنا مدرسة تعلمنا ونتعلم منها كل يوم شيئا جديدا، أشياء كثيرة في الحياة تسعدنا ونفرح بها وبقدومها، وهناك أشياء تمر علينا وتحزننا وتترك أثراً عميقا في نفوسنا, وقد نستطيع تغيير هذا الشيء للأفضل وأحياناً نقف عاجزين عن عمل أي شيء, لكن لنا الدعاء فهو سلاح العبد, نلجأ إلى الله تعالى ولا إلى غيره, فحاجتنا ليست عند البشر بل هي عند خالق ومصرف البشر, بيده كل شيء وهو على كل شيء قدير.
لقد عملت مع الأطفال التوحديين وتعاملت مع أسرهم أعواماً كثيرة, وأفتخر بهذا العمل مع هذه الفئة وأحتسب أجري عند الله تعالى, فلقد علموني الكثير والكثير من الخبرات التي أفتخر كل يوم بها. أطفال التوحد هم أطفال يعانون اضطرابا يمثل إعاقة نمائية شاملة تؤثر وبشكل ملحوظ في التواصل اللفظي وغير اللفظي وفي التفاعل الاجتماعي وتظهر الأعراض الدالة عليه بشكل ملحوظ قبل سن الثالثة من العمر وتؤثر في أداء الطفل التربوي.
ومن الخصائص والمظاهر الأخرى التي ترتبط بالتوحد انشغال الطفل بالنشاطات المتكررة والحركة النمطية ومقاومته التغيير البيئي أو مقاومته تغييرا في الروتين اليومي إضافة إلى الاستجابات غير الاعتيادية أو الطبيعية للخبرات الحسية.
وقد افتتحت بعض المراكز الخاصة في المملكة لخدمة هذه الفئة وتنافست في رفع أسعار الرسوم الدراسية وتقديم خدمات متفاوتة للأطفال, منهم من قدم برامج متكاملة ومنهم من قدم برامج متواضعة ورفعوا أسعار الرسوم على خدمات لا تتجاوز أربع ساعات رعاية نهارية للطفل والأهل لا حول لهم ولا قوة، مازالوا يعانون هذه الأسعار المرتفعة لكن وجود طفلهم في المنزل دون تدريب هو ما يجعلهم يقدمون على أي مركز فيه شاغر لابنهم لأن هناك أيضاً معضلة قوائم الانتظار التي تمتلئ بالأعداد المهولة من هؤلاء الأبرياء الذين لهم حق التعليم والتدريب كالأطفال الآخرين بل هم أشد حاجة، ولكن!!
وافتتحت الدولة أقساما للتوحد في معاهد التربية الفكرية في بعض مناطق المملكة, وما زالت مدن كثيرة تفتقر إلى تقديم أي خدمة لهؤلاء الأطفال في مناطقهم, ما يضطر الأسرة للانتقال بأكملها لتسجيل وإلحاق أطفالهم بأحد المراكز في منطقتي الرياض أو جدة, وفيهما أكثر مراكز للتوحد في المملكة.
وحتى فصول التربية الفكرية لم تستقطب قوائم الانتظار كافة, وقد يعود ذلك إلى عدة أسباب, منها عدم وجود كوادر مدربة على تعليم أطفال التوحد أو عدم توافر خدمات مساندة أخرى غير المتعارف عليها، على الرغم من وجود خريجين يحملون بكالوريوس تربية خاصة وما زالوا عاطلين عن العمل، ولو قدم لهم التدريب المناسب لكيفية التعامل مع إعاقة التوحد لأبدعوا, فهم متخصصون، ولكن؟
وما زلنا وأطفالنا التوحديون نعيش في غربة ونحن في أوطاننا لكن هذا يهون لوجود الأطفال في أحضان أسرهم ويتابعونهم ويرعونهم ويقدمون لهم كل ما يحتاجون إليه, وكذلك بعض المراكز المخلصة في تقديم أفضل الخدمات لهؤلاء الأطفال وهم يراعون الله في أعمالهم, فبارك الله في جهودهم.
ولكن الغربة الحقيقية وهي عنوان مقالتي وسطوري هذه هي غربة أطفالنا في الخارج, وأقصد بها إرسال بعض الأسر أطفالهم إلى بعض الدول العربية أو الأجنبية لمراكز إيواء, ونحن لا نضع اللوم هنا على الأسر أو على أحد آخر, بل جميعنا مدانون, ولنتعرف على بعض الأسباب التي استشففتها من الأسر أصحاب المشكلة, والذين يعانونها:
- عدم رضا الأهالي عن مستوى أبنائهم هنا وعن عدم تقدمهم وتطورهم في المراكز الملتحقين بها.
- وجود حالات شديدة خاصة من الشباب التوحديين الذين بلغوا الـ 15 من العمر وما فوق ولا توجد لهم مراكز ترعى هذه الفئة العمرية وليست هناك برامج مناسبة تقدم لأعمارهم وتطوراتهم الفسيولوجية والسلوكية التي يصعب على الأهل أحياناً السيطرة عليها مثل "سلوك الضرب، الصرع، العناد، الفراغ، سلوك الإيذاء لنفسه أو لغيره, وهناك سلوكيات أخرى تظهر في سن الشباب لا يستطيع الأهل السيطرة عليها, ولا توجد لدينا, مع الأسف, مراكز ترعاهم وتتعامل معهم.
- خبرات الأهالي الذين ألحقوا أبناءهم بمراكز خارجية وتحدثوا عن تقدم أبنائهم خاصة في التدريبات التي تهتم بالاعتماد على النفس تدريبا ذاتييا ثم عادوا بهم إلى أرض الوطن بعد ما تقدموا درجات كبيرة جداً جعلت بعض الأسر تقدم على هذه الخطوة وبقوة .
- إحساس بعض الأسر بتأنيب الضمير تجاه أبنائهم وأنهم مهما فعلوا فهم مقصرون, فيزداد هذا التأنيب إلى البحث في كل المجالات وتقديم كل السبل التي تساعد أبناءهم على التقدم, وقد يكون أحياناً ومع الأسف الأطفال محط تجارب من أسرهم كاستخدام بعض العقاقير التي قد تناسب أو لا تناسب ولكن خوفاً من تأنيب الضمير يلجأ بعض الأسر إلى هذه الأساليب, ولا يلامون لأن هذه الإعاقة ومسبباتها وتطوراتها متغيرة بشكل كبير, فكل يوم نفاجأ كممارسين مع هؤلاء الأطفال وكذلك الأسر بتطورات غريبة على الطفل إما إيجابي وإما سلبي، وهذا يعطي الأسر دافعا لمعرفة أسباب التغير المحير لدى الأطفال.
- هناك بعض السلبيات التي أثرت في بعض الأسر ولمستها منهم, وهي حتى بعد إلحاق أطفالهم بمركز إيواء في الخارج يعودون إلى أرض الوطن ويبدأ لديهم تأنيب الضمير خاصة لدى الأم فتتساءل: هل ابني بخير؟ هل يعامل معاملة جيدة؟ هل أكل؟ هل نام؟ أسئلة كثيرة تدور في خلج كل أب وأم, ونحن لا نلومهم.
- أيضاً من بعض السلبيات تغيير البيئة على الطفل واختلاف العادات في جوانب أخرى, ما يؤدي إلى انتكاس بعض الحالات في البداية, ثم يبدأون في التغير.

ما الحلول لهذه المشكلة؟ مشكلة أبنائنا، أبناء هذا الوطن الذين قدم آباؤهم وأمهاتهم ومازالوا يقدمون الكثير لهذا الوطن الغالي وهم الآن لا يطالبون إلا بالقليل والذي لا يكلف الكثير.
نادى أهالي كثيرون بالنظر إلى هذه المشكلة, ولكن لا مجيب.
وننادي ومن خلال منبر "الاقتصادية" بفتح مركز إيواء لبعض حالات التوحد وليس لجميع الحالات, لأن وجود الطفل التوحدي في بيئة الأسرة يزيد من عطائه وتقدمه, لأنه يفتقد التواصل الاجتماعي واللفظي, فوجوده داخل أسرته أفضل بكثير. لكن نحن ننادي بفتح مركز إيواء لبعض الحالات الشديدة التي لا تستطيع الأسرة السيطرة عليها ومنها أن يكون الطفل في البيئة نفسها وفي وطنه ولا يحس بغربة وكذلك راحة بال الوالدين وهم يزورونه كل فترة وكذلك خروجه لأسرته في أوقات العطل والأعياد هذا يساعد حتى على استقرار نفسية الطفل أو الشاب التوحدي، فالكثير يقول إن ذوي التوحد لا يحسون ولا يعبرون عن مشاعر الحزن والفرح!! ونحن نقول غير ذلك و نخالفه وبقوة إن التوحدي مزيج من الأحاسيس والمشاعر لمن يفهمه ونحن من خلال قربنا منهم لمسنا هذا الشيء وبقوة ولكن يفتقدون صعوبة التعبير عن الفرح أو الحزن أو حتى الألم لكننا نراه في ابتساماتهم ونظراتهم ودموع أعينهم وكأن لسان حالهم يقول نحن معكم نحن نفهمكم ونحبكم.
أختم حروفي هذه بنداء لولاة الأمر بالنظر لحال هؤلاء التوحديين الذين يعيشون في غربة عن أحضان أهاليهم ووطنهم، نحزن كثيراً عندما نسمع خبر انتقال أحد أطفالنا إلى الدول الأخرى ليس قصوراً في جهود هذه المراكز الخارجية بل نقدم لهم جزيل الشكر على احتوائهم أبناءنا ولكن نحن أولى .. أولى بأن نرعى أبناءنا وفي أحضاننا.. فانظروا يا ولاة الأمر في ذلك, فسنسأل عند الله عنهم.

رسالة حب وولاء أبعثها....

لكل من علمني حرفا .. وأنا أكتب هذه الحروف
لكل أم وأب وهبا طاقاتهما وأوقاتهما لتعليم أبنائهما.. ليتميزوا ويتغلبوا على إعاقتهم ...
لكل من هم خلف الأضواء فهم كالشمعة يحرقون أنفسهم ليضيئوا للآخرين, لطاقم الرجال والنساء من مسؤولين ومسؤولات الذين يعملون ليل نهار ليوفروا الأفضل لأبنائنا المعوقين..
لكم أيها المعلمون الذين في أيديكم فلذات أكبادنا.. طوروهم.. اصنعوا منهم جيلا ناجحاً مبدعاً...
وأخيراً لكل متطوع مع هذه الفئة الغالية على قلوبنا .. فهم جنود مجهولة لهم فضل كبير .. احتسبوا عملكم عند الله .. ولا يضيع الله عمل عاملٍ منكم.

الإخصائية الاجتماعية

الأكثر قراءة