الطاقة والماء والغذاء تحديات مترابطة تستوجب الحذر في القرارات!

الطاقة والماء والغذاء تحديات مترابطة تستوجب الحذر في القرارات!

لم يكن مستغربا حصول موضوع الأمن المائي والغذائي على أعلى تصويت بين جميع المواضيع والمحاور التي صوت عليها واختارها المشاركون من رجال وسيدات الأعمال والمفكرين والاقتصاديين والمختصين في ورشة العمل التي أقامها منتدى الرياض الاقتصادي خلال آذار (مارس) من هذا العام استعدادا للدورة الرابعة للمنتدى. فقضايا الماء والغذاء إضافة إلى الطاقة باتت فعلا أهم قضايا المرحلة في المملكة شأنها شأن جميع دول العالم أينما حططت رحالي خلال هذا العام متجولا بين عدة قارات، والشاهد هنا بأن هذه المواضيع مترابطة وذات صلة ببعضها البعض ولها تأثير مباشر في حياة المواطن أينما وجد وتطلبت قيام الدول بالمسارعة في بلورة استراتيجيات شاملة وواضحة ومترابطة للتعامل معها وبما يخفف من آثارها فيها وفي مواطنيها.

الطاقة
أطلق الدكتور ستيفن لييب تحذيره عام 2004 في كتابه الشهير The oil factor أن سعر برميل النفط سيصل إلى 100 دولار قبل نهاية العقد. في الوقت الذي كان سعره في ذلك الوقت يقارب 50 دولارا فقط، وقد اعتبر كثير من الاقتصاديين أن هذا التنبؤ مبالغ فيه كثيرا!!! إلا أن الدكتور ستيفن كانت له قراءات مختلفة مبنية على عدة عوامل، منها: عدم إمكانية التوسع في الإنتاج في كثير من مناطق العالم، زيادة اعتماد الولايات المتحدة على البترول المستورد بعد أن كانت تنتج معظم احتياجاتها قبل عام 1973، ووصول أمريكا إلى ذروة الإنتاج الذي بموجبه توقع الجيولوجي هيوبرت "صاحب قانون هيوبرت" الذي قال فيه إنه إذا تم استخراج البترول من حقل ما إلى النصف فإن الإنتاج سيبدأ في الانخفاض بعد ذلك. وبتطبيقه هذه القاعدة على أمريكا فإن ذروة الإنتاج ستكون عام 1970 ليبدأ إنتاجها في الانخفاض بعد ذلك. وهذا ما تم فعلا، حيث إن الإنتاج آخذ في الانخفاض التدريجي منذ ذلك الوقت وبالتالي ازداد الاعتماد على الخارج.
إضافة إلى هذه الأسباب، فإن النمو المتواصل لدول "التشندا" الصين والهند، والذي سيتجاوز النمو في إنتاج النفط سيؤدي إلى تصادم بين العرض والطلب لا محالة، وهو ما يعني ارتفاعات تاريخية في أسعار النفط.
هناك دولة وحيدة تقريبا توقع لها أن تكون العامل الحاسم مستقبلا في أزمة الطاقة العالمية ...... وهي السعودية، أو كما أطلق عليها: "القوى البترولية العظمى... أو The Oil Super Power، وأهمية سياساتها وقراراتها البترولية على الاقتصاد المستقبلي العالمي واستقراره من عدمه.
لهذه العوامل ومع ارتفاع معدل استهلاك ومعدل دخل الفرد في الهند والصين اللتين تمثلان 35 في المائة من سكان العالم، فإن كل نسبة نمو مهما كانت صغيرة لها تأثير كبير في استهلاك الموارد العالمية من طاقة وخام وغذاء، وهذا يؤدي ليس فقط إلى ارتفاع أسعار، بل إلى انخفاض المعروض أمام الطلب وعدم سهولة توفيره في الأسواق العالمية.

الموارد المائية
لا يوجد خلاف على أن هناك شحا في توفير المياه للاستهلاك الإنساني والزراعي في العديد من دول العالم، حيث تعد المملكة من بين الدول المحدودة الموارد المائية بسبب ندرة الأمطار وعدم وجود أنهار جارية فيها. ومع ذلك لم تبدأ المملكة في العناية بتنمية الموارد المائية بشكل يتناسب مع أهمية هذا القطاع إلا بعد إنشاء وزارة متخصصة في المياه خلال أقل من خمس سنوات ومن ثم بدأت الدراسات المائية الحديثة والجادة بهدف التعرف على الوضع الحقيقي للمياه الجوفية ومن ثم بلورة استراتيجية وطنية للمياه.
وهذه خطوة جيدة وعملية تُعتبر المملكة في أمس الحاجة إليها. وقد تمت الاستعانة بخبراء من عدة جهات بما فيها البنك الدولي وكذلك شركات عالمية متخصصة من أجل تحقيق الهدف المنشود. وقد أوصت ورش العمل التي جمعت جميع المتخصصين بأهمية استكمال ما لا يقل عن ست دراسات هيدرولوجية للطبقات الرسوبية المختلفة في المملكة ومع أن بعض الدراسات الأولية لطبقتين مائيتين أظهرت انخفاضا في منسوب المياه الجوفية، إلا أن ذلك ليس مبرراً للمسارعة في توصيات ومن ثم إصدار قرارات مائية مرتبطة بالقطاع الزراعي وتؤثر فيه تأثيراً جذرياً وبالتالي في الإنتاج الزراعي الوطني!!
خاصة في هذا التوقيت بالذات الذي لا تعاني فيه المملكة ودول العالم ارتفاع أسعار المحاصيل الزراعية والسلع الغذائية فقط، وإنما باتت تعاني محدودية توفيرها بشكل ميسر كما كان يحدث في السابق للأسباب السابق ذكرها. وهذه الأسباب ليس أزمة عابرة لوقت قصير كما يظن البعض ولذلك فإن الوضع يحتم استكمال الدراسات المائية نهائياً ومن ثم عرضها للنقاش والتداول مع كل من له علاقة وخاصة القطاع الزراعي لبلورة استراتيجية وطنية للمياه تأخذ يعين الاعتبار الأبعاد الزراعية والغذائية والاجتماعية الوطنية في المملكة للعقود الزمنية المقبلة وتتوافق مع متطلباتها بدلاً من القرارات المنفردة والمتعارضة معها وتؤدي إلى آثار سلبية مستقبلية في الوطن بأكمله.

الأمن الغذائي:
ارتفاع تكلفة الطاقة وتكاليف الإنتاج والمواد الخام وشح المياه بشكل غير مسبوق للأسباب الوارد ذكرها أدى إلى ارتفاع تكلفة المحاصيل الزراعية والمواد الغذائية في دول العالم بما فيها المملكة. حتى في دولة مثل فرنسا وهي من أكبر الدول الزراعية الأوروبية ارتفعت السلع الزراعية والمواد الغذائية هذا الشهر وازداد التضخم بنسبة تجاوزت 6 في المائة أدت إلى تصدر هذه المشكلة عناوين المجلات والصحف. كذلك قامت العديد من الدول باتخاذ إجراءات احترازية للتعامل مع هذا الارتفاع غير المسبوق في الأسعار وبلورة استراتيجيات وطنية تهدف إلى ضمان انسياب السلع الزراعية والتخفيف من آثار ارتفاع أسعارها في مواطنيها، خاصة بعد أن حذرت منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) من أن إمدادات الحبوب العالمية بالكاد تغطي الطلب مما يعمل على رفع أسعارها هذا الموسم وأن عوامل الطلب القوي وتراجع المخزونات تطغى على زيادة الإنتاج. كما أنه في حال استمرار الزيادة في نمو الطلب العالمي فإن أسعار الحبوب العالمية مرشحة للاستمرار في الارتفاع.
وقد بينت المنظمة أن من المتوقع أن يرتفع الطلب العالمي على الحبوب بنسبة 2.60 في المائة إلى 2.2 مليار طن وهو زيادة على متوسط الإنتاج خلال العشر السنوات الماضية ويتجاوز النمو في الإنتاج مما يعني ضغوطا على المخزون العالمي. وكما لا يساعد كبح جماح الأسعار توجه بعض الدول وخاصة أمريكا إلى تحويل مساحات محاصيل القمح بدعمها السخي لصالح منتجي محاصيل إنتاج الوقود الحيوي مثل الذرة وقصب السكر. فأمريكا تتوجه إلى استراتيجية للتقليل من الاعتماد على النفط المستورد بالتوسع في إنتاج الوقود الحيوي مستهدفة رقما جديدا وهو 36 مليار جالون من الإيثانول خلال العقدين المقبلين. وهذا يشكل خمسة أضعاف إنتاجها الحالي؟
أما في المملكة، فإن وزارة الزراعة سبق وتبنت مفهوم "الأأمن الغذائي". وهذا يعني القيام بالاعتماد على إنتاج جزئي لاحتياجاتها من المحاصيل الاستراتيجية وأهمها القمح واستيراد الجزء الآخر من الخارج، مع الاكتفاء من المحاصيل الأخرى مثل الخضراوات والتي لا تستهلك الكثير من المياه.
وفي هذا الصدد بلورت وزارة الزراعة استراتيجية زراعية وطنية تم عرضها على الفاعلين في القطاع وتم رفعها إلى المجلس الاقتصادي الأعلى حيث من أهم معالمها التخفيض التدريجي لمساحات القمح المزروعة لتصل إلى 100 ألف هكتار بحلول عام 2020م، مع توجيه الدعم لصالح إنتاج المحاصيل الأقل استهلاكا للمياه واستخدام أنظمة ووسائل الري الحديث ودعم مدخلات إنتاج العلف المصنّع تجنبا لتحول المساحات المتناقصة من القمح لصالح زراعة الأعلاف المستهلكة للمياه. إلا أن المفاجأة أن كل هذه الخطط مضت عكس التيار تماما وبما يشكل تحديا لأزمة الغذاء العالمي التي تتفاقم يوميا!! فقد تفاجأ الوسط الزراعي المحلي بصدور قرار "مائي" بحت يقضي بوقف زراعة القمح نهائيا خلال السنوات الثماني المقبلة؟! وهو ما يتعارض مع الاستراتيجية الزراعية التي تم إعدادها على مدى عامين من الزمن وتهدف إلى التوافق والمواءمة بين الاحتياجات الزراعية والتنمية الريفية من جهة وبين الموارد المائية في المملكة من جهة أخرى.
ففي ظل غياب التنسيق بين قطاعي الزراعية والمياه الذي أشار إليه سعادة الدكتور علي الطخيس وكيل وزارة المياه في صحيفة "الاقتصادية" بتاريخ 22/3/2008م، يتم صدور قرار سوف يكون له تبعاته وآثاره السلبية في الوطن والمواطن إن لم إعادة دراسته بشكل متأن وبتنسيق وتوافق تام بين كافة القطاعات للتعامل مع التحديات السالفة الذكر.
فقرار في معزل عن التحديات المذكورة كقرار الوقف التام لزراعة القمح أدى إلى الخروج الفوري للعديد من مزارعي القمح لعدم جدواه الاقتصادية أو مستقبله الواعد لهم. فتقلصت المساحة الحالية هذا الموسم بما يقدر بنسبة 25 في المائة ما يعني أن المملكة ستبدأ مبكرا في تعويض الفارق من الخارج لمواكبة الاستهلاك المحلي من القمح. فمن سيتحمل الفرق في التكلفة التي ستتضاعف؟! هل المواطن أم خزانة الدولة؟! كذلك فإن هذا القرار لم يؤد إلى تخفيض الاستهلاك المائي في البلاد بل العكس تماما!! حيث تحولت معظم المساحات هذا الموسم التي انخفضت من محصول القمح إلى زراعة الأعلاف التي يزيد استهلاكها من المياه بنسبة 3 إلى 1؟!!
ولذلك فإنه من الأجدى للمملكة وفي ظل الظروف والمتغيرات العالمية، أخذا في الاعتبار الموارد المائية وإمدادات المحاصيل والسلع الزراعية وتفاقم الأسعار للطاقة وجميع المواد الخام المختلفة أنه لا بد من تفعيل مفهوم الأمن الغذائي، كما ينبغي وكما دأبت كثير من دول العالم على الأخذ به، الإبقاء على حد أدنى من إنتاج محصول القمح الاستراتيجي في مناطق مختارة بعناية تعطي أعلى معدل ليس للهكتار فقط، وإنما للمتر المكعب من المياه لتعظيم الفائدة من الميزة النسبية، وفي الوقت نفسه الإبقاء على إنتاج وطني يكون ضمانا لمخزون واحتياطي استراتيجي لا يقل عن مليون طن في العام وهو ما يمكن إنتاجه من ثلث المساحة الزراعية الحالية للقمح التي تقدر بـ 500 ألف هكتار وهذا من شأنه المساهمة في المحافظة نسبيا على استقرار أسعار هذه السلعة الاستراتيجية وتجنب خطأ القضاء التام على الخبرة والمعرفة المتراكمة لتقنيات زراعة هذا المحصول وإخراج المستثمرين فيه إلى غير رجعة، وفي الوقت نفسه المحافظة على بعض اقتصاديات إنتاج القمح التي تؤثر تأثيرا مهما في المناطق المنتجة له في مدن الأطراف وتحدث فيها رواجا تجاريا واقتصاديا.

الأكثر قراءة