اقتصاد جديد .. شركات تستثمر في منتجات الفقراء فقط

اقتصاد جديد .. شركات تستثمر في منتجات الفقراء فقط

يزداد عدد الشركات العالمية التي تغريها فكرة إنتاج منتجات موجهة لأولئك الذين يقبعون في أسفل الهرم الاجتماعي، أي نحو أربعة مليارات شخص في هذا العالم ممن يعيشون بنحو دولارين أمريكي يومياً. وليس الأمر المغري الوحيد لهذه الشركات هو استكشاف إمكانيات أسواق جديدة لم يسبق لأحد أن طرق أبوابها، ولكنها تستهدف في الوقت ذاته أن تكون ذات أثر في مجتمع عالمي يتصف بالفروق الواضحة بين ذوي النعم وغيرهم من المحرومين. وتجد هذه الشركات التي تحاول تطوير منتجات خاصة لهذه الطبقات الفقيرة أن التكلفة لا تمثل العامل الأهم في هذا التوجه الإنتاجي.
وسلطت المائدة المستديرة التنفيذية للاستدامة، بالتعاون مع مركز إنسياد للإبداع الاجتماعي، الشهر الماضي، الأضواء على الدور الذي يمكن للنشاطات العملية أن تلعبه في معالجة حاجات الفقراء، ودراسة الإمكانات الكامنة لأسواق ذوي الدخول المتدنية فيما يتعلق بنشاطات الشركات.
إن تطبيق استراتيجة موجهة نحو أسفل الهرم من خلال ابتكار منتجات جديدة، ليس بالعمل السهل على الإطلاق. وحتى لو استطاعت الشركة إنتاج منتج يمكنه المساعدة على تحسين مستوى حياة الفقراء في هذا العالم، فإن عملية التوزيع يمكن أن تكون صعبة بسبب حواجز الوصول إلى الأماكن الملائمة في أسواق الشرائح التي تنتمي إلى أدنى درجات السلم الاجتماعي.
لا يتعلق الأمر فقط بإنتاج منتجات أرخص:
يلاحظ بيتر وايت، مدير الاستدامة العالمية في شركة بروكتور وجامبل، أنه حين تلجأ أي شركة إلى إنتاج منتجات مبتكرة موجهة للطبقة الموجودة عند أسفل الهرم الاجتماعي، فإن التكلفة وحدها لا تمثل أهم ما في هذا الأمر. ويقول، "إن الأمر لا يتعلق فقط بإنتاج منتجات أرخص، حيث يتوجب عليك التوصل إلى منتجات يمكنها بالفعل تلبية الحاجات الحقيقية إلى تلك الطبقة الموجودة عند أسفل الهرم الاجتماعي. وتبرز في هذه الحالة أمامك أسئلة حول كيفية تصميم هذه المنتجات. وعليك بالفعل أن تجد إجابة شافية، ولذلك فإننا نرسل الباحثين لمعرفة كيفية معيشة الناس، وكيف ينجزون فعاليات حياتهم اليومية فيما يتعلق بالغسيل، والتنظيف، وما هي المشكلات التي تواجههم في ذلك".
ويشير في هذا الصدد إلى نظام تنقية المياه الذي طورته هذه الشركة، بالتعاون مع المركز الأمريكي للسيطرة على الأمراض، وذلك بهدف ابتكار عملية إنتاج تناسب الطلب في الأسواق، وتزود الأسر بمياه شرب نظيفة في الأماكن التي تتسم بارتفاع مخاطر شرب المياه غير النقية، وبالذات بين فئة الأطفال.

وبدا بعد نحو ثلاث سنوات من البحث أن هذه الشركة تقف أمام جدار من احتمالات الفشل، حيث إن برنامج "بيور" الذي رعته كان يواجه احتمالات حقيقية في الفشل. وتلجأ شركات كثيرة في مثل هذا الوضع إلى إقفال المشروع، ولكن هذه الشركة تولت تحويله إلى وحدة الاستدامة فيها، كما خففت الضغوط الخاصة بالحصول على أرباح منه وباعت الشركة هذا المنتج منذ عام 2003 بأسعار التكلفة، كما عملت على استمراره من خلال الشراكات التي توصلت إليها مع عدد من المؤسسات غير الربحية التي تتولى توزيع المنتج من خلالها شبكات الإعانة والتوزيع لديها. وهكذا توسعت قاعدة استخدام هذا المنتج، وأثبت أنه فرصة حقيقية لتحسين حياة الكثيرين، إضافة إلى أنه البرهان على حرص هذه الشركة على الشؤون البيئة والصحية، والأثر الكبير الذي يمكنها أن تحدثه من خلال تطوير مثل هذه المنتجات المبتكرة.
وهنالك حالة أخرى طرحتها كريستين هيرو، مديرة برنامج فرص الحصول على الطاقة في شركة الكهرباء الفرنسية. وأوضحت هذه المسؤولة أن شركة الكهرباء الفرنسية استطاعت من خلال شركات الكهرباء والخدمات الريفية، أن تساعد على إيصال التيار الكهربائي إلى مناطق ريفية في مالي، والمغرب، وجنوب إفريقيا، التي كانت ستحرم من الطاقة الكهربائية دون هذه الجهود. وتضيف هذه المسؤولة "تمكن 800 ألف شخص من الحصول على التيار الكهربائي نتيجة لهذه الجهود، حيث نستهدف أن تصل تغطيتنا إلى مليون شخص عام 2010".
وتضيف"إن ذلك يمثل مجرد قطرة في محيط. ويمكن إذا نظرت إلى الأمور في إطار ما استطعنا إنجازه في دولة واحدة مثل مالي،حيث نتولى إنتاج 8 ـ 10 في المائة من الكهرباء، فإنك ستلاحظ مدى قيمة هذا الجهد".

الوصول إلى الهدف أمر مهم:
كانت الحالة الدراسية الثالثة مقدمة من جانب جايانث بهوفارجهام من شركة إيسلور الهندية، وكلود دادنو، مدير استدامة الشركات في شركة إيسلور العالمية في فرنسا.
تتولى هذه الشركة إنتاج عدسات النظارات. حيث وجدت أن منشآت العناية بالعيون في عدد من مناطق الريف الهندية، ضعيفة للغاية حتى أنه لم يكن هنالك مجال للاستفادة من العدسات الطبية. ومعروف أن عدم تصحيح الإبصار يؤدي في الكثير من الحالات إلى العمى. وتبين للشركة أن العمل في هذا المجال يمكن أن ينقذ عيون الملايين من فقراء تلك المناطق. وأنشأت الشركة من خلال فرعها في الهند قسماً للتسويق في تلك المناطق الفقيرة، بعد أن أدركت الفرص المتوافرة أمام مثل هذا النشاط، وذلك عام 2004 لتوسيع الدائرة البشرية التي يمكن للشركة أن تصل إليها.
وتبين مرة أخرى أن إمكانيات الوصول إلى الأماكن الصحيحة تمثل أمراً بالغ الأهمية. واستطاعت الشركة من خلال دراساتها الميدانية الموسعة في تلك المناطق أن تقف على أسباب عدم وجود طلب على العدسات الطبية بين أفراد ذلك المجتمع. وفوجئت أوساط الشركة حين أجمعت إجابات كثيرة على أن الأمر لم يكن يتعلق بتوفر المال بصفة رئيسية.

الشراكات مهمة كذلك:

ركز المشاركون في مائدة النقاش هذه على أهمية تكوين الشراكات المناسبة كمفتاح رئيسي للوصول إلى الطبقة القابعة عند أسفل الهرم الاجتماعي، وبالتالي وضع الاستراتيجيات الملائمة للتعامل مع مشكلات هذه الطبقة. ويمكن أن يكون هؤلاء الشركاء من القطاع العام، أو القطاع الخاص، كما حدث في حالة شركة الكهرباء الفرنسية التي لم تكن تستطيع النجاح لو أنها لجأت إلى العمل المنفرد، كما يقول المسؤولون فيها. وتعمل الشركة الآن بالتعاون مع شركاء مثل توتال، ونيون، وهايدروكويبيك، وإسكوم".
أما شركة بروكتور وجامبل، فتوصلت إلى شراكات عمل مع عدد من المنظمات غير الحكومية التي كانت تحاول رفع درجة الوعي بالحاجة إلى معالجة مياه الشرب. واستطاعت الشركة بذلك الاستفادة من شبكات التوزيع الجيدة التابعة لتلك المنظمات غير الحكومية. وكان من أبرز تلك المنظمات ذات الخبرة الواسعة في قضايات المياه، منظمة خدمات السكان الدولية. كما أن شركة بروكتور وجامبل لجأت في مجال اختصاصها إلى الاستفادة من شبكات التوزيع التابعة لها في البلاد المعنية.
قنوات التوزيع الناجح:
تبين أن مسألة الوصول إلى الأسواق الصحيحة أمر بالغ الأهمية كذلك. وتقول مصادر شركة إيسيلور في الهند"تعلمنا أن بعض الحالات تتطلب نقل الخدمات مباشرة لتطرق أبواب من يحتاجون إليها. وطورت الشركة عربة خاصة يستطيع العاملون فيها تشخيص أمراض العيون، وكذلك تصنيع العدسات الطبية، حيث يتعاون هؤلاء مع الجهات المختصة في المنظمات غير الحكومية، مثل منظمة انكارا لترالايا، ومستشفى أوافند للعيون. ولعل أهم ما في هذه الجهود تلك التغيرات التي طرأت على تقنيات نموذج العمل الخاص بالإنجاز، كما يقول رون أندر، أستاذ الاستراتيجية والإدارة المشارك في إنسياد.
إنشاء نماذج مستدامة:
وتقول هيرو إنه حين يتعلق الأمر بجهود شركة الكهرباء الفرنسية المتعلقة بكهربة الريف، فإن الأمر الأكثر أهمية هو إنشاء نشاطات عملية ذات علاقة بالطاقة على الصعيد المحلي، باستخدام معدات الطاقة الشمسية، أو المولدات العاملة على المشتقات البترولية. وفي الإمكان انتهاج الطريق الإنساني، أو طريق العمل من خلال آلية الأسواق. وبدأت الشركة عام 1994 جهودها الإنسانية التي تمثلت بتوزيع المولدات الكهربائية. غير أن ذلك الأسلوب لم يحقق نجاحاً، حيث لم تتوافر الأيدي العاملة الماهرة اللازمة لإصلاح أعطال تلك المولدات، إضافة إلى أن حجم المشروعات كان صغيراً، بحيث كان المشروع يغطي قرية، أو مدرسة،أو مستشفى. وتبين للشركة أن عليها إقامة نشاطات عملية أوسع في مجال توليد الكهرباء، إذا هي استهدفت إيصال خدماتها إلى ملايين من الناس المحتاجين إلى ذلك.

وتؤيد وجهة النظر هذه أستاذة إنسياد المشاركة، مارجريت هانسون، حيث تقول"إن الأسواق تمثل محركاً قوياً للابتكار بالنسبة للخدمات التي تحتاج إليها الطبقات الواقعة عند أسفل الهرم الاجتماعي. كما أن الأسواق تمثل مصدراً مهماً للاستدامة".
وتضيف أن النشاط العملي يلعب دورين مهمين بهذا الخصوص. فمن جانب الطلب، فإننا نجد أن النشاطات العملية المسؤولة اجتماعياً يمكنها أن تساعد على معرفة أنماط الاستهلاك. أما من جانب العرض، فإن الإبداع الإنتاجي يدخل في صلب الاستدامة الاجتماعية والبيئية.

الأكثر قراءة