في زمن الاحتراف "الأدبي".. الشعراء يعتزلون ملاعب القصيدة !!

في زمن الاحتراف "الأدبي".. الشعراء يعتزلون ملاعب القصيدة !!

في زمن الاحتراف "الأدبي".. الشعراء يعتزلون ملاعب القصيدة !!

قبل أيام قرأت عن شاعر أعلن اعتزاله في بيان رسمي، ذكر فيه أنه لم يعد يأبه بكل ما كتب، وقال أيضاً ضمن مسوغات قراره التاريخي والمرحلي إنه يتفهم ببساطة وثقة أن عقداً من الزمن لم تثمر في حياته التي يرغب في استمرارها بعيداً عن الشعر والشعراء!
طبعاً هو لم يذكر أي أسباب أخرى لهذا القرار الذي سيعيد ترتيب الساحة الأدبية في العالم، كما أن مصادرنا لم تؤكد بعد، ما إذا كان يرغب في إقامة حفل اعتزال يستضيف فيه فريقا من شعراء أوروبا المحترفين!
طبعاً قرار صاحبنا لم ينته على ذلك القدر من خيبة الأمل تجاه الشعر، فقد أكد في نهاية بيانه المقتضب أنه "مبتهج" بهذه الخطوة ومقتنع بها تماما، ويتمنى للجميع أن يستمروا في خياراتهم، وبالتالي فعلى جميع الشعراء مراعاة فارق القناعات وحرية الخيارات، فهذا النجم المعتزل لا يجبر أحداً على توديع الملاعب الشعرية، كما أن أحداً لن يحاول إجباره على الاستمرار في الركض لموسم شعري آخر أو المشاركة في مونديال القصائد القادم في جنوب وادي عبقر.
وسواءً لعب أو اعتزل أو سجل أهدافاً في مرماه حتى، فكل هذا لا يعنينا، بالقدر نفسه الذي لم نعد به نعني أخانا في الله مجدداً، لكننا سنتساءل فقط كيف يمكن لشاعر أن يصل إلى قناعة باعتزال الشعر ما لم يكن ذلك نتيجة لفهم قاصر بمفهوم هذا الشعر وحقيقته لديه؟

لن ننساك .. يا .. ؟؟

أريد أن أقول لصاحبنا فقط وهو يلوح تلويحته الأخيرة لدنيا القصائد،"إنك لو كنت شاعراً لما اعتزلت الشعر، فأنت معتزل قبل أن تبدأ، لأنك لم تشعر بالقيم الروحية والإنسانية التي يمنحك إياها الشعر، فلو شعرت بها لعرفت أن الشعر يجعل منك إنساناً أكثر، وأنك تكون كأي شخص عادي قبل أن تستلهم قيمته فيمنحك كلمات سر الجمال ويوصلك بأقرب طريق إلى ذاتك، ويرشدك إلى جهات الغيم ولغة النجوم، لو فهمته جيداً فقط لتذكرت أنه منحك "عيناً أكثر من مجردة" تجعلك ترى ما لا يرى الآخرون ويحق لك ما لا يحق لهم.
الشعر يبلغك سلامه ويقول لك لا حاجة له بك ما دمت لا تحتاج إليه، ولن يخسرك بقدر ما ستخسره، فهو ليس كتابة نفعية تستفيد منها ولا مصلحة تنتظر منها تغيير حياتك، لكنه العالم الخاص بشعورك وموطن روحك وقدرتك على أن تكون أصغر من أحاسيسك وأكبر من كل الأشياء، الشعر حب وانتماء وأحلام تتحقق وحياة، ولك أن تتخلى عنه إن شئت لمجرد كونك أقل استيعاباً له رغم كونه أكثر استيعابا لك حتى منك".

حياكم الله على "شعر" الكلافة !!

الشعر عمر آخر يعيش مع الشاعر وبه، فلا يملك الانفصال عنه، ولا يستطيع الانعتاق منه إلا فيه، وإذا كانت الكتابة لعبة يمكن إنهاؤها كما يرى أخونا في الله، فهذا يعني أن مشروع الشعر الجمالي الذي يتحدث عنه محمود درويش سيتحول مشروعاً تجارياً خاضعا للتقييم بحسب فوائده على مستوى الحياة، بحيث يتم تغيير نشاط المؤسسة الشعرية إلى مقاولات أو محل"ابو ريالين" بناء على اعتبارات نفعية، أو ربما يقرر شاعر ما اتباع نصيحة عادل إمام "اتكل على الله واشتغل رقاصة"!
بالنسبة لي فبالتأكيد أن قيمي ومبادئي واحترامي للشعر لن تسمح لي بفعل شيء من ذلك القبيل إذا فرضنا جدلا أنني قررت ترك الشعر، لأنني حينها سأطلب من ملهمتي أن تتحول إلى مشجعة رياضية وسأقيم مباراة اعتزالي مع منتخب أدباء الأرجنتين أو شعراء "إنتر ميلان" الإيطالي، وشرفونا تجدوا ما يسركم!

من مدرجات قصيدة أجمل

قررنا أن نقف على الحياد ولو عبثاً متجاهلين القانون الفيزيائي الذي ينص على أنه بين "المبدع المصنوع والإبداع الطبيعي يفتح الله"، فربما أدى تعصبي للشعر إلى عدم تفهم حيثيات القرار الاستراتيجي لأخينا في الله، خطرت في بالي متلازمة خالد قماش الشهيرة في المقارنة بين الشاعر ولاعب كرة القدم عندما اعتبر الأول "يتقدم بأفكاره" والآخر "يفكر بأقدامه" فقررت أن أسأله حول موضوع اعتزال الشعراء، ولأكون حياديا أكثر فقد حبست تساؤلي التقريري الذي كان يتردد في بالي "بالله ياخالد .. عمرك سمعت بواحد يعتزل الشعر ؟؟" وفضلت أن أقرأ عليه فقط مقتطفات من البيان العظيم للشاعر المعتزل، ولم أكن مضطرا إلى إكماله عندما علّق خالد قماش بقوله لي "كلام مضحك وغير منطقي، الشعر ليس وظيفة كي يقدم شاعر استقالته منها، وليس امرأة كي يقرر تطليقها أو هجرها، الشعر قدر دائم على صاحبه الذي يرى فيه ذاته ووجوده، هو ليس مجرد حالة أدبية و ممارسة كتابية عابرة لكنه عالم يعيش ضمن مكونات الشاعر وتفاصيله ليصنع علاقة مستمرة بين التعبير عن الروح والحياة و الإحساس بكل شيء يستحق التعبير عنه".
ومن واقع تجربته، استدرك قماش الساكن في صومعة الهدوء بعيدا عن عواصف الساحة أنه يتفهم قيام مبدع باعتزال النشر أو الأمسيات أو الابتعاد عن الوسط الشعري على سبيل التعفف وبناء على قناعته مثلا بسطحية ما يطرح أو عدم ثقته بأدبية ما يتم إنتاجه باسم الأدب. بينما لا يمكن الاقتناع أبدا أن شاعراُ يمكن أن يعتزل الشعر متى شاء.
استضفت نجما شعريا آخر في أوج عطائه هو طلال حمزة والذي أكد لي بدوره استحالة أن يتخذ شاعرٌ قراراً بإيقاف ملكته الشعرية، معتبرا أن أمرا كهذا لا يتم بإرادته أصلا، وأضاف" ربما يكون الإحباط هو السبب الذي دفع ذلك الشاعر لأخذ ذلك الموقف أو ربما لا يتجاوز ذلك مجرد رغبته في لفت النظر وصناعة مانشيت صحفي، وعموما لا نستطيع أن نحكم على قرار كهذا ما لم نطلع على تجربة الشاعر ومعرفة قيمتها النوعية ومدى كونها مؤثرة إيجاباً أو متأثرة سلباً بما يحدث في الساحة الشعرية " وأشار حمزة إلى وجود نماذج من كبار الأدباء الذين يمرون بحالات إحباط نتيجة إهمال المؤسسة الثقافية أو عدم وجود التقدير الذي يستحقونه ما يؤدي إلى عزلتهم عن الوسط الشعري أو اعتزال النشر فقط دون التوقف عن الكتابة، فهذا أمر غير وارد لدى مبدع حقيقي .

الأكثر قراءة