الهند .. تكلفة اقتصادية عالية لحماية الأبقار «المقدسة»

الهند .. تكلفة اقتصادية عالية لحماية الأبقار «المقدسة»

سوهان لال، المزارع الذي يبلغ من العمر 52 عاما في ولاية ماديا براديش، في قلب الهند، يواجه منذ فترة طويلة المشاكل العادية التي يواجهها مزارعو البلد البالغ عددهم 120 مليونا، بدءا من تقلبات الطقس وصولا إلى أسعار السلع الأساسية المتقلبة. لكن هذه الأيام يواجه لال، الذي يزرع القمح وحبوب الصويا في أرض مساحتها ثلاثة أفدنة في قرية بيباليا ميرا، تهديدا جديدا يعيث الفساد في اقتصاد الهند الريفي: الأبقار الضالة التي تدخل حقله وتأكل محاصيله.
في عام 2004 أصدرت حكومة الولاية، الخاضعة لسيطرة حزب بهاراتيا جاناتا القومي الذي يقدس أتباعه من الطائفة الهندوسية الأبقار كما لو أنها آلهة، قانونا جديدا يحظر ذبح جميع الأبقار. هذا التشريع - الذي يمنع أيضا إخراج الأبقار المسنة خارج الولاية بهدف الذبح - تم تعديله في عام 2012 لتمديد عقوبة السجن وتحويل عبء الإثبات إلى المشتبه بهم، الذين يفترض الآن أنهم مذنبون ما لم يتمكنوا من إثبات براءتهم.
مع وجود دوريات من الشباب العدواني الذين يتولون دور منفذي القانون، عمل الحظر على قلب اقتصاديات رعاية الأبقار الحلوب، وأدى إلى تدمير سوق مزدهرة للأبقار المسنة أو العجول الذكور، التي كانت في السابق مهمة من أجل لحومها وجلودها. اليوم، يجري التخلص من الأبقار غير المرغوب فيها بشكل خفي، في جنح الظلام، على طول الطرق السريعة أو في قرى أخرى، ما يؤدي إلى انتشار الماشية الضالة.
يقول لال: "لا يستطيع الناس تحمل تكاليف إطعامها لذلك هم فقط يتخلون عنها في جنح الليل. يجري تدمير المحاصيل من قبل الأبقار المهجورة ومن الثيران. إن كنا مستيقظين، نطاردها لنبعدها عن الحقل. خلافا لذلك، هي تدمر كل شيء".
الهند التي هي أصلا أكبر منتج للحليب في العالم، تعاني الآن من أجل مواكبة متطلبات السكان الأكثر ثراء للحصول على الطعام المغذي. لكن الأبقار الضالة مشكلة آخذة في التزايد في الوقت الذي يستخدم فيه حزب بهارتيا جاناتا الصاعد، بقيادة رئيس الوزراء ناريندرا مودي، سلطته الآخذة في الاتساع لتعزيز قوانين حماية الأبقار وتقييد الإتجار فيها، وفاء بتعهد الحزب القديم، المتمثل في الدفاع عن "جاو ماتا"، أو "البقرة الأم".
تعطيل سلاسل التوريد المعقدة التي كانت تربط بين مزارعي الألبان الهنود وبين صادرات البلاد من الجلود واللحوم والذي بلغت قيمتها نحو 11 مليار دولار في عام 2016، سلط الضوء على وجود تناقض أساسي في قلب إدارة مودي.
في عام 2014 وصل رئيس الوزراء إلى السلطة من خلال تعهد بتسريع النمو الاقتصادي وإيجاد فرص لنحو 12 مليون شاب يدخلون سوق العمل سنويا. لكن وعوده بإحداث انتعاش اقتصادي كانت مغلفة بتيار خفي من القومية الهندوسية، التي تسعى لتفضيل الحساسيات الدينية الخاصة بالأغلبية الهندوسية في مجال السياسة العامة.
في سعيه للحصول على قوانين أقوى لحماية الأبقار - على حساب صناعات تعمل في مجموعها على توظيف ما لا يقل عن 5.5 مليون شخص - أشار حزب بهارتيا جاناتا إلى أن الأجندة الثقافية للقومية الهندوسية تتغلب على المصالح الاقتصادية، بما في ذلك الحاجة الملحة لاستحداث الوظائف.
يقول جيل فيرنييه، أستاذ العلوم السياسية في جامعة أشوكا في نيودلهي: "كان موضوع حماية الأبقار قضية جوهرية تميز الحركة القومية الهندوسية منذ انطلاقها. وهي ليست شيئا يمكن نبذه بسهولة من أجل حجة اقتصادية. فهم على استعداد لتحمل التكاليف. ومن الناحية السياسية، يعتقدون أن ذلك الأمر مجز بصورة أكبر. فالمكاسب تفوق التكاليف".
يقول اقتصاديون إن سياسات حماية الأبقار الصعبة هي بمثابة ضربة للأسر الريفية، التي يربي نصفها الأبقار، سواء باعتبارها مصدرا للحليب للاستهلاك الخاص أو للحصول على دخل. ويحذر خبراء من ركود إنتاج الحليب وحدوث زيادات حادة في الأسعار.
يقول رافي سريفاستافا، أستاذ الاقتصاد في مركز دراسات التنمية الإقليمية في دلهي، التابع لجامعة جواهر لال نهرو: "من الغريب أن عواقب هذا الأمر على الاقتصاد الكلي لم تؤخذ في الحسبان. فأنت تحول أحد الأصول إلى مطلوبات".
ويضيف: "إن لم يكن المزارعون قادرين على بيع أبقارهم الزائدة عن الحاجة، سترتفع تكلفة كل وحدة من الحليب بشكل هائل حتى يتسنى لبقية أجزاء اقتصاد الألبان أن تكون قابلة للاستمرار. المزيد من المزارعين هم بشكل متزايد غير راغبين في الاحتفاظ بهذه الحيوانات".
بدأت جهود الدولة في حماية الأبقار شمالي الهند في أواخر القرن التاسع عشر، عندما سعت الطبقة العليا من الهندوس إلى مقاومة النفوذ الغربي وحفز المشاعر القومية. البقرة التي هي قلب الاقتصادات الريفية، ارتفعت مكانتها الرمزية لتمثل "أم الدولة الهندوسية" - وهي فكرة منتشرة في الملصقات والنشرات والاجتماعات العامة.
نشأت جمعيات حماية الأبقار في شمالي الهند وفي المدن الكبرى، التي كانت تسعى - لكن دون جدوى - لتجريم ذبح هذه الحيوانات. يقول فيرنييه: "دائما ما كانت البقرة رفيقا أساسيا في الحياة اليومية في المناطق الريفية من الهند. وأصبحت أساسا رمزا للهوية الوطنية الهندوسية، التي لم تكن ترتكز كثيرا إلى الدين، لكنها تتعلق بالرموز الثقافية التي تستثير فكرة الوطن الام".
وعمل رفع مكانة البقرة لتصبح رمزا وطنيا مقدسا على إثارة التوترات وإحداث انقسام واحتكاكات بين الهندوس والمسلمين الذين لا يحرم عليهم أكل لحوم البقر، وأحيانا ذبحها في الاحتفالات الخاصة بهم. ونشبت أعمال شغب طائفية بسبب ذبح الأبقار في عام 1893، وتكررت في العقود التالية.
وبعد حصول الهند على استقلالها في عام 1947، سعى الزعماء الهندوس المحافظون إلى فرض حظر وطني على ذبح الأبقار وإدراجه في الدستور. تم رفض ذلك المطلب، لكن مع الاحتفاظ بـ "مبدأ توجيهي" يحث الولايات على منع ذبح الأبقار أو التخلص من الحيوانات التي يمكنها جر المحاريث أو العربات.
ومنذ الخمسينيات حظر كثير من الولايات ذبح الأبقار التي لا تزال قادرة على الإنجاب. لكن ذبح الأبقار المسنة غالبا ما كان مسموحا به، ما أدى إلى ظهور سوق ريفية مزدهرة للحيوانات التي لم يعد بإمكانها إنتاج الحليب أو جر المحاريث، التي كان يباع الكثير منها للتجار في بنجلادش المجاورة.
في الوقت الذي كان يرتفع فيه إنتاج الحليب في العقدين الماضيين في الهند، ارتفعت كذلك صادرات الجلود واللحوم، مدفوعة بدورة التناوب الطبيعية للحيوانات المنتجة للحليب وتزايد مكننة الزراعة، التي شهدت ارتفاعا حادا في استخدام الجرارات وتقليل الطلب على الثيران.
لكن في الحملة الانتخابية في عام 2014، استنكر مودي علنا ارتفاع صادرات اللحوم من الهند، التي وصفها مرارا بعبارات انفعالية مثل "ثورة وردية" - إشارة إلى اللحم والدم - ما أدى إلى تدمير إنتاج الماشية المحلية. وقال أمام حشد كبير: "الناس الذين يذبحون الأبقار، ويذبحون الحيوانات، يعملون على تدمير أنهار الحليب الوافر لدينا".
منذ ذلك الحين، كان حزب بهارتيا جاناتا يضغط من أجل سحق تجارة الماشية. وشددت الولايات التي تقع تحت سيطرة الحزب نطاق قوانينها الخاصة بحماية الأبقار لإيقاف حتى ذبح الحيوانات المسنة التي لم تعد قادرة على التكاثر، وحظر نقل الماشية ما بين الولايات، وفرض عقوبات أشد على المخالفين - تصل إلى السجن مدى الحياة في حال ذبح بقرة في ولاية مودي الأم، غوجارات.
أصدرت نيودلهي، هذا الصيف، أمرا لعموم الهند يجعل شراء أو بيع أي نوع من الأبقار - بما في ذلك الجواميس - من أجل الذبح في أية أسواق للماشية، جرما جنائيا، على الرغم من أن هذه القوانين تم استبعادها من قبل المحكمة العليا استجابة للتحديات القانونية.
وشهد شمالي الهند ظهور فئة عنيفة "من حماة الأبقار"، مسؤولة عن سلسلة من الهجمات القاتلة على مزارعين مسلمين وتجار ماشية، وهي عمليات قتل خلفت جوا من الخوف وكسادا شديدا في أسواق الماشية، الصغيرة منها في السن والكبيرة، التي كانت نشطة في السابق. يقول سريفاستافا: "تعطلت سلسلة التوريد بأكملها لأنه ليس هناك أي تجار يأتون إلى القرى. فهم خائفون جدا جدا".
الضربة المباشرة الأشد كانت موجهة لصناعة الجلود، خاصة مراكز الجلود القديمة في أوتار براديش، الخاضعة لحكم حزب بهارتيا جاناتا شمالي الهند، حيث أصبحت إمدادات الجلود مضطربة للغاية، بسبب الرقابة القوية من المدافعين.
يقول رفيق أحمد، الرئيس الأسبق للجنة صادرات الجلود: "الناس خائفون من نقل الجلود لأن ’حماة الأبقار‘ يستطيعون إيقاف تحركات الجلود على الأرض".
ويضيف: "إمدادات الجلود المحلية متقطعة. يكون الأمر لا بأس به لفترة من الزمن، إلى أن يحصل شيء ما، حينها تتعطل بضعة أسابيع. ومن ثم تعود إلى وضعها الطبيعي. لكن المصانع لا يمكنها العمل وفق هذه الآلية. ينبغي تأمين العرض دائما".
نظرا لهذا الوضع، بدأ الكثير من شركات إنتاج السلع الجلدية الهندية - بما في ذلك الشركات التي تصنع الأحذية وغيرها من المنتجات - في استيراد الجلود من الخارج. يقول أحمد: "الناس الذين كانوا يستخدمون الجلود الهندية يرغبون في تأمين عمل مصانعهم، لذلك يستوردون المزيد".
لكن حركة حماية الأبقار ألقت أيضا بظلال كثيفة على إنتاج الحليب. يقول ساجاري رامداس، وهو طبيب بيطري منتسب إلى "تحالف السيادة الغذائية": "ترتبط صناعة منتجات الألبان بشكل كلي بحرية المزارع في بيع حيواناته واستبدال ماشيته. إن لم يعد بإمكان المزارع التمتع بهذه الحرية، يمكن أن تكون لها آثار خطيرة على إنتاج الحليب".
ولاية البنجاب المزدهرة زراعيا - حيث تمتلك شركة نستله أكبر مصنع لها لمعالجة وتعبئة الحليب الهندي - تأتي في طليعة الجهود التي تبذلها الهند بغية زيادة إنتاجها من الحليب.
ولأن العرض لا يزال متخلفا عن الطلب، كان ارتفاع أسعار الحليب من المحركات الكبيرة لحدوث تضخم في أسعار الغذاء على مدى العقد الماضي. يقول أمارجيت سينج ناندا، نائب رئيس جامعة جورو أنجاد ديف للعلوم الحيوانية والبيطرية في مدينة لوديانا: "نحن بالتأكيد بحاجة إلى المزيد من الحليب، والحيوانات لدينا لا تقدم الإنتاجية الأفضل مقارنة بالعالم المتقدم".
المزارعون أصحاب المشاريع في البنجاب أداروا ظهورهم إلى حد كبير للماشية الأصلية الموجودة في الهند، واتجهوا بدلا من ذلك إلى تربية سلالات أجنبية مثل هولشتاين- فريزيان، التي تعتبر الأبقار الأعلى إنتاجا للحليب في العالم. نتيجة لذلك، تنتج البنجاب 8 في المائة من حليب الهند، من أصل 2 في المائة فقط من حيواناتها المنتجة للألبان.
وعمل مزارعو البنجاب أيضا على تربية أبقار هولشتاين - فريزيان - التي تعادل قيمتها نحو 100 ألف روبية (1500 دولار) للبقرة الواحدة - وبيعها للمزارعين في مناطق الهند الشمالية، ما ساعد على رفع إنتاج الحليب في البلاد.
لكن القيود المفروضة على مبيعات الماشية وقوانين حماية الأبقار في الولايات الخاضعة لحكم حزب بهارتيا جاناتا تسببت في انهيار الطلب على هذه الحيوانات المكلفة، لأن المزارعين عزفوا عن شرائها بسبب عوامل اللبس حول ما إذا كان بإمكانهم استرداد التكاليف.
حماة الأبقار في الولايات المجاورة للبنجاب غالبا ما يطلبون أن يدفع الناقلون 15 ألف روبية (230 دولارا) أو 20 ألف روبية عن كل بقرة قبل السماح للشاحنات بالمضي إلى الوجهة التي تقصدها.
آفاتار سينج، مربي ماشية مبيعاته الوحيدة الآن هي التي يجريها مع مزارعين في البنجاب، يقول: "البقرة التي كنت أبيعها مقابل 90 ألف روبية، أبيعها الآن مقابل 50 ألف روبية". ويضيف: "الناس يهينون التجار. يقولون إن هذه الحيوانات هن أمهاتهم".
ويحذر ناندا من أن "الهند ستواجه أزمة حليب" فيما لو استمرت مثل تلك الاتجاهات. "سيتوقف نمو صناعة الألبان".
يوافق آجاي فير جاكار، رئيس "لجنة مزارعي البنجاب"، على أن تعطيل تجارة الماشية ستكون له انعكاسات سلبية كبيرة على إنتاج الحليب. "سيتوقف الناس عن تربية الحيوانات المنتجة للألبان لأنها لن تكون مجدية". "ستصبح الهند مستوردا صافيا للحليب في غضون عشر سنوات. سوف نعتمد اعتمادا كليا على شراء الحليب من الخارج".

الأكثر قراءة