أيام التتن
أحاطت بالتتن، وهو الدخان أو التنباك أو السجائر كما أصبح يعرف اليوم، في بلادنا في بدايات القرن الماضي وحتى بعيد منتصفه حكايات وقصص أشبه بالأساطير، مغموسة بالدمع حيناً وبالهلع حيناً آخر. على أنه ما من شهادة ميلاد لأول وجود له، ولا أحد يعرف بالضبط من جاء به أو كيف بدأ؟ لكنه كان يأتي أساسا في أكياس أو بالات خيش منثورا يباع بالوزن والكيل، يدعى (الشاور)، ولم تكن السجائر الجاهزة الصنع في الـ (بكيتات) معروفة في البداية، فقد كان التدخين يتم بحشو التتن داخل عظم مجوف، يعرف بـ (السبيل) أو بلفة في ورق رقيق جدا خاص به. وكان المدخنون يحملونه في أكياس صغيرة (صرار) أو في علب معدنية قاعها لـ (التتن)، بينما يثبت الورق في غطائها بمشبك.
وكم كان مثيرا ومدهشا للصغار منظر الرجال وهم يمارسون طقوس التدخين، حين تبرق بين أيديهم تلك العلبة العجيبة، بينما تقوم أصابعهم بأناقة ساحرة ببرم ورق اللف حول حشو التتن لتستوي (الزقّارة) بيضاء رشيقة كالطبشورة ثم تستقر بين الشفاه، وليصبح المشهد بعد إشعالها وانتشار سحابة الدخان عملا خرافيا خارقا!!
كانت عشيات البلدات تنصب مسرحا دراماتيكيا في الأذهان حين تتدفق الأحاديث عن غرائب مغامرات وبطولات مهربي الدخان من بلدان الجوار، يتناقل الناس بشيء من النشوة والهيبة ملاحم إفلات أولئك الجبابرة من قبضات رجال الجمارك وحرس الحدود، عابرين بسيارات (الوانيت) صحاري شرسة الرمال، شاهقة الطعوس، وعرة الحزوم والتلاع والشعاب والأودية، قاطعين متاهات تتهيب حتى السباع والطيور والرياح أن تمر بها.
أما بيع التتن فقد كان له أيضا في كل بلدة حكايته، فثمة بائع أو اثنان، ونادرا ما كانوا أكثر. يحيطون مهنتهم بالسرية التامة والتكتم، لكن مدونات الذاكرة الشعبية تحفظ عنهم أساليب ذكية لإرشاد الباحث عن تتن يشتريه: كحكاية البائع الذي طلى كامل جدران بيته من الخارج بالجص الأبيض فبات منزله معلما، من أراد شراء الدخان فعليه أن يذهب إلى (البيت الأبيض!)، مع ذلك فقد كان الاتجار به ضربا من الخطر يتطلب الحيطة والحذر، لأن أمره كان ملتبسا بين المكروه والممنوع، يصادره (مطاوعة) البلدة أو أميرها ويحرق في ساحة البلدة أمام الملأ، سواء ما ضبط عند بائع أو في سيارة مهربة..!!
كان التتن يلاقي استنكارا عظيما تلخصه مقولة: (تتن وقل صلاة!!)، يطلقون عليه ذما له وتحقيرا (المخزي)، ويقولون عمّن يدخنه: (يشرب المخزي) ويعتبر الرجال أن طامة كبرى حلت بهم لو نما إلى علمهم أن ابنا لهم (يتتن) وكثيرة هي الحكايات المضحكة المبكية التي تشير إلى ذلك، منها قصة الرجل الذي قيل له إن ولده في المدينة أصبح (يتتن ويأكل الفول!!) فطار صوابه، تكبد مشاق السفر، ذهب هناك ليؤدب هذا الابن المارق. ذهل الابن من حضور والده المفاجئ وانقبض صدره وقد رآه متجهما، لكنه تركه ينام ليلته، وفي الصباح وبعدما أنهى الأب فطوره بصمت (إنما بنهم ولذة!!) صرخ بولده: (هل بلغت بك الوقاحة إلى أن تشرب التتن وتأكل الفول؟!) ردد الابن، مدهوشا: (فول؟ فول؟ ما به الفول يا أبي؟ فطورك الذي أكلته كان فولا..) وبعفوية قال الأب: (هذا فول؟.. هذا فول؟ أجل.. اعطني التتن!!)، ومع ذلك وحتى في ظل هذا التابو الصارم، فقد كانت بعض البلدات لا تخلو من شيوخ متسامحين قابلوا التتن بالستر على أصحابه، كالشيخ الذي مرّ من أمام بيت أحد باعة الدخان بعد صلاة الفجر فشاهد على عتبة داره نثار التتن (الشاور) فطرق الباب، أجابته الزوجة بتلعثم وقد عرفت فيه صوت الشيخ وهو يقول: (قولي لزوجك يشيل بقية العلف من العتبة!!)، بل تروى عن هذا الشيخ وأمثاله أنهم كانوا يختلقون الأعذار ليوقفوا السيارة بين حين وآخر حين يكونون في رحلة بحجة قضاء الحاجة أو الاستراحة لكي يتيحوا للمدخنين فرصة التدخين بعيدا عن العيون!!
لقد أحدث التتن ثورة في المزاج العام، شق عصا طاعة العرف والتقاليد، اشتهر به في البداية السائقون والمعاونية وعمال شركات الزيت والحفر (الجلوجية) ثم شيئا فشيئا شاع كعلامة على التمدن (الزبعة) بل تسلل إلى أيادي الأولاد عبر مغافلة الوالد أو الأخ الأكبر وأخذ بعضا من تتنه أو بالتقاط أعقاب السجائر (قطوف) أو تدخين عروق النخل وأغصان الشجر الهش وأحيانا الروث، كما أخذ طريقه إلى جلسات السمر ورافق (الكشتات) ودخل في نسيج المتعة وفي الفن الشعبي وتغنت به الأشعار مثل:
"من معه كبريت يولع لي زقارة
والزقارة بعض الأوقات محبوبة!!"
وكذلك ضربت له الأمثال: "دخن عليها تنجلي!!".
وها قد دار الزمن دورته.. صارت حرب الأهل بالأمس ضده من منطلق الحفاظ والتزمت حربا عالمية عليه اليوم، إنما من منطلق الوعي بأضراره الفادحة.. فيا للمفارقة!!