مستقبل "منظمة التجارة" مرتهن بمصالح الدول النامية

تناولت في المقال السابق مستقبل منظمة التجارة العالمية، وعطفاً على هذا الموضوع، وخاصة في ظل انعقاد المنتدى الاقتصادي العالمي في هذه الآونة الذي يناقش بعض القضايا الاقتصادية العالمية المتعلقة بتدفقات التجارة البينية بين الدول العربية، أرى أنه إذا كان الهدف الأساسي الذي تسعى تلك المنظمة إلى تحقيقه هو التحرير الاقتصادي الكامل للسلع والخدمات، ورؤوس الأموال والتقنيات، والذي شهد نقلة نوعية غير مسبوقة مع ميلاد تلك المنظمة التجارة العالمية، إلا أنها تعرضت لانتقادات عديدة من جانب مناهضي العولمة، وهي انتقادات سواء أكانت ذات طبيعة اقتصادية وبيئية واجتماعية وصحية وأمنية، وسواء أكانت على حق وصواب أم لم تكن من الناحية النظرية، إلا أن تقدير صحتها أو بطلانها يتوقف على النتائج والانعكاسات العملية التي يمكن أن يحملها المستقبل، سواء فيما يتعلق باقتصاديات الدول أو بمستوى معيشة الأفراد. ومع ذلك فإن من الحقائق التي لا يمكن إنكارها بعد التطبيق الفعلي لاتفاقيات منظمة التجارة العالمية أن هناك تغييرا جوهريا في مفاهيم اقتصادية عديدة مثل التنمية، والثروة، والموارد الإنتاجية، والندرة، ومنشأة السلع، وغيرها.
كما أن هناك انتقادات يمكن أن تهدد مستقبل المنظمة وهي تلك التي تتعلق بنشاطها والمشاركة في رسم سياساتها وسير عملها. ونحن نرى أنه يقع على عاتق المهتمين بنشاط المنظمة من الباحثين في المجالات الاقتصادية والقانونية وغيرهم من المختصين مهمة توضيح الدور المستقبلي لتلك المنظمة وإظهار السلبيات التي يمكن أن يتمخض عنها التطبيق العملي لاتفاقياتها، ووضع الحلول والآليات التي تكفل التغلب عليها، أما غض الطرف عن تلك السلبيات وعدم إظهارها فيمكن أن تترتب عليه على المدى الطويل نتائج سلبية قد يصعب التعامل معها بعد تفاقمها.
ونرى أيضاً أن تحقيق المنظمة أهدافها في تحرير التجارة الدولية وانعكاساتها على اقتصاديات الدول وعلى مستوى معيشة الأفراد، يتطلب اتخاذ العديد من الإجراءات والآليات التي تكفل التغلب على تلك الانتقادات، ومنها:
1. مراعاة ظروف الدول النامية والدول الأقل نموا، وذلك من خلال تفعيل تطبيق نصوص اتفاقيات منظمة التجارة العالمية التي تتعلق بها.
2. ضرورة التمييز بين تحرير التجارة الدولية الذي يقتصر تأثيره فقط في نمو الناتج القومي وبين حرية التبادل التجاري الذي يتعدى ذلك إلى التغيير الهيكلي في الإنتاج ويؤدي إلى تنمية اقتصادية مستدامة مبنية على زيادة في معدل التصنيع.
3. عدم التسرع فيما يتعلق بالآثار المتوقعة من تحرير التجارة والاستثمارات الدولية دون تمييز كاف بين دولة وأخرى من الدول التي تقوم بهذا التحرير. فنوع النتيجة النهائية لابد أن يتوقف ليس فقط على مرحلة النمو التي بلغتها الدولة ومدى توافر الظروف المواتية لدفع عجلة التصنيع فيها، بل لابد أن يتأثر أيضا بطبيعة اقتصاد الدولة التي يجري تحرير التجارة والاستثمارات إزاءها؛ إذ لابد أن تتغير النتيجة بحسب مرحلة النمو التي بلغتها الدول الأكثر نموا وطبيعة السلع والخدمات التي تحتاج إلى تصريفها.
4. ضرورة إيجاد موارد مالية بديلة للدول النامية والدول الأقل نمواً؛ إذ يترتب على تنفيذ اتفاقيات منظمة التجارة العالمية انخفاض كبير في حصيلة الرسوم الجمركية للدول النامية، حيث تشكل هذه الرسوم مصدراً أساسياً من مصادر الدخل الوطني لها.
5. ضرورة اهتمام الدول النامية بالتصنيع وجودته باعتباره خيارا مهما وأساسيا للنهوض باقتصاديات تلك الدول؛ ذلك لأن تحرير تجارة السلع وما يترتب عليه من إلغاء القيود الجمركية يترتب عليه تعريض الصناعات الوليدة لدى تلك الدول لمنافسة شرسة؛ حيث لا تقوى على تقديم منتجات صناعية قادرة من حيث الجودة والسعر على المنافسة في الأسواق الدولية والوطنية.
6. الاهتمام بتحرير السلع التي تتمتع فيها الدول النامية بقدرة تنافسية عالية، مثل المنسوجات، والتي مازالت الدول المتقدمة غير متحمسة لتحريرها مقارنة بسلع أخرى لا تعد ذات أهمية بالنسبة للدول النامية.
7. ضرورة تشجيع عمليات اندماج الشركات والبنوك ومؤسسات التأمين في شركات عملاقة؛ حيث تستطيع المنافسة في الأسواق العالمية ومواجهة الشركات متعددة الجنسيات.
8. أهمية رفع كفاءة القطاعات الخدمية لدى الدول النامية.
9. ضرورة وضع آليات تكفل التغلب على مخاطر تعرض البنوك والقطاعات المصرفية بصفة عامة في الدول النامية للأزمات المالية والاقتصادية الحادة.
10. أهمية تفعيل المبادئ التي تقوم عليها المنظمة لصالح الدول النامية والتي تتعلق بحرية التبادل التجاري مثل مبدأ عدم التمييز، ومبدأ شفافية التجارة.
11. إحكام الرقابة على عمليات غسل الأموال التي يمكن أن تزداد نتيجة تحرير التجارة الدولية وفتح المجال أمام الرساميل الأجنبية.
12. ضرورة وضع ضوابط تكفل التغلب على مخاطر تعرض أسواق المال في الدول النامية للمضاربات المدمرة، التي تترك آثاراً سلبية ليس فقط في اقتصاديات تلك الدول بل تؤثر بشكل مباشر في مستوى معيشة الأفراد؛ نظراً لأن هناك الكثير من مدخرات الأفراد يتم توجيهها نحو الاستثمار في الأسهم في أسواق المال.
13. ضرورة وضع الضوابط الكفيلة بمنع التدفقات المفاجئة وقصيرة المدى لرؤوس الأموال الأجنبية والتي تبحث فقط عن الربح السريع ولا تهتم بالتنمية المستدامة في الدول النامية المضيفة لها، الأمر الذي يترتب عليه التأثير سلباً في الاستقرار الاقتصادي في تلك الدول.
14. الاهتمام بوضع النظم الكفيلة باجتذاب الاستثمارات الأجنبية طويلة المدى، مع منح المشاريع التي تسهم بشكل مباشر في تحقيق التنمية المستدامة للدول النامية المضيفة لها مزايا تفضيلية؛ حيث تتدرج الإعفاءات الضريبية بحسب مدى ما يحققه المشروع من قيمة مضافة للاقتصاد الوطني.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي