مياه الصرف الصحي تلوث أنهار لندن

مياه الصرف الصحي تلوث أنهار لندن
مياه الصرف الصحي تلوث أنهار لندن

كانت الأسماك الميتة هي التي جعلت دوج كينيدي يرتاب في أنه ربما يكون هناك أمر خاطئ في مياه نهر تايم، رافد نهر التيمز الذي يمر عبر مركز لندن.
يقول كينيدي "النهر كان أسود اللون، وكان هناك ذباب في جميع أنحائه، وكان هناك كثير من الطحالب المتشابكة، ما يُشير إلى أن هناك كثيرا من المواد المغذّية في المياه". ويضيف "كانت هناك أسماك كبيرة - الشوب، الروش - طافية عليه".
على الفور اتصل كينيدي الذي يعمل مقاول تكنولوجيا معلومات ومصوّرا، في وكالة البيئة في بريطانيا. جرى الاتصال في صيف عام 2013. وفي نهاية المطاف، في آذار (مارس) الماضي، تحملت "ثيمز ووتر" التي توفر نحو ثُلث المياه وأنظمة الصرف الصحي في إنجلترا، أكبر غرامة تنظيمية على تلويث الأنهار في تاريخ الشركات البريطانية بعدما فشلت في الحفاظ على معدات رئيسية وإدارتها بطريقة سليمة.
لكن الحادثة كشفت أيضاً عن شيء مُثير للقلق بالقدر نفسه. ففي الوقت الذي سُمح فيه بتدفق مياه الصرف الصحي غير المعالجة إلى النهر المليء بنبات الصفاف والنرجس المتدلي، كانت الأموال تتدفق خارج أكبر شركة مياه في البلاد.
دفعت الشركة 1.16 مليار جنيه أرباح أسهم بين عامي 2006 و2015، وذلك وفقاً لبحث أجرته "فاينانشيال تايمز" - عائد يُعادل نحو نصف حقوق المساهمين البالغة 2.3 مليار جنيه التي دُفعت لشراء "ثيمز ووتر" من قِبل مصرف البنية التحتية الأسترالي "ماكواري" في العام المالي 2006/2007.
أيام الدفع للمستثمرين في الخارج الذين يسيطرون على "ثيمز ووتر" تزامنت مع الفترة التي لم تدفع فيها الشركة، في الغالب، أي ضريبة مفروضة على الشركات، ودفعت للمسؤولين التنفيذيين رواتب ضخمة، وضاعفت ديونها - كل ذلك مع إهمال مسؤولياتها البيئية في عدة مناسبات بسبب الفشل الذي وصفه القاضي، فرانسيس شيريدان، الذي ترأس قضية التلوث في محكمة إيلزبيري كراون في وقت سابق من هذا العام، بأنه "يكاد يصل إلى حدود التصرف العمد".
يُمكن القول "إن فصل المياه عن الصرف الصحي هو العامل الوحيد الأكثر أهمية في حماية الصحة العامة والبيئة الطبيعية في المناطق الحضرية". لكن ثيمز ووتر تعرّضت لغرامة بمبلغ قياسي بلغ 20.3 مليون جنيه في آذار (مارس) بسبب إلقاء 4.2 مليار لتر من المياه الملوثة - ما يُعادل أكثر من 1700 بركة سباحة أولمبية - في نهر التيمز ونهر تايم على مدى ثلاثة أعوام ـ بين عامي 2012 و2014.
الحادثة التي هي واحدة من حوادث عديدة تتضمن ثيمز ووتر، تُثير تساؤلات حول ما إذا كان قرار إنجلترا غير العادي السماح للشركات الخاصة بإدارة نظام المياه العام مقابل أرباح هو نظام ناجح، تماماً في الوقت الذي تحاول فيه بلدان أخرى مثل البرازيل مضاهاته.

نحو مناطق الأوفشور

كانت الخصخصة التي أدخلتها الحكومة البريطانية في الثمانينيات، تهدف إلى تحقيق أكبر قدر من الكفاءة في إدارة المرافق العامة. لكن في حالة ثيمز ووتر أصبحت تجربة معقدة في الهندسة المالية.
يقول السير إيان بيات الذي كان رئيساً لهيئة تنظيم المياه في المملكة المتحدة "أوفوات" بعد خصخصة الصناعة في عام 1989 "الجميع تقريباً في مجلس إدارة "ثيمز ووتر" هم مستثمرون ولا يستطيع المرء مقاومة فكرة أنهم يهتمون بالمال أكثر من خدمة الجمهور". ويضيف "من السهل جداً نسيان المصلحة العامة ويدفع المستهلكون أكثر مقابل فواتير المياه بسبب ذلك".
بالنسبة إلى السير إيان، الهيكل التنظيمي لمجموعة ثيمز ووتر غامض مثل غموض الماء في النهر. يقول "هو ليس شفافا، ونحن لا نعلم من المسؤول. إذا كانوا يكسبون مالا وفيرا، فأنت تتوقع منهم أن يبذلوا قدرا من الجهد العام. هناك مشكلة حقيقية في تحديد على من تقع المسؤولية".
وفي حين إن "أوراق بنما" في السنة الماضية أظهرت كيف أن الشركات والأشخاص الأغنياء يستغلون الأنظمة الضريبية المتكتمة في مناطق الأوفشور من أجل تعظيم أرباحهم وتجنب المحاسبة، إلا أن "ثيمز ووتر" نجت من التدقيق إلى حد كبير.
تم تعويم المجموعة في البورصة في عام 1989، ثم استحوذت عليها شركة المنافع الألمانية RWE في 2001. ومنذ كانون الأول (ديسمبر) 2006 أصبحت المجموعة مملوكة لتكتل من المستثمرين المؤسسيين، بما في ذلك صناديق من الصين وأبو ظبي. وكان يتولى إدارتها "ماكواري كابيتال فندز" Macquarie Capital Funds، الصندوق الذي وصفته الصحف الأسترالية بأنه "كنجارو مصاص الدماء"، بسبب ادعاءات بأنه يركز بشكل لا يرحم على الأرباح وتقليل الضرائب. وفي آذار (مارس) باع حصته البالغة 26 في المائة، وكانت الأكبر المملوكة لجهة فردية، إلى مستثمرين كويتيين وكنديين.
يتم تمثيل هؤلاء المستثمرين من قبل شركة تحمل اسم "كيمبل ووتر هولدينجز" يوجد مقرها في لوكسمبورج. لدى "كيمبل" وحدة أخرى باسم "ثيمز ووتر كايمان فاينانس"، مسجلة في جزر كايمان، التي هي ملاذ ضريبي آخر. هناك نحو سبع شركات وسيطة أخرى تقع بين شركة كيمبل ووتر هولدينجز وزبائن "ثيمز ووتر"، وهي تضطلع بأدوار من الصعب تحديدها.
تقول شركة ثيمز ووتر "إن هذا هيكل مناسب تماما لأعمال تشبه أعمالنا وليست غير مألوفة في شركات المرافق العامة". هاجم تقرير مكتب مراجعة الحسابات الوطني الصادر في عام 2015 عددا من شركات المياه لاحتفاظها بالأرباح بدلا من تمرير الوفورات إلى الزبائن.
ويشعر السير إيان بالقلق من أن إلغاء إدراج شركة ثيمز ووتر من سوق الأسهم في عام 2006 يعني أن قضايا مثل قضية أجر التنفيذيين، التي تضخمت في السنوات الأخيرة، تمر من دون منازع.
حصل مارتن باجز، الرئيس التنفيذي في الفترة من عام 2009 حتى أيلول (سبتمبر) 2016، على زيادة في الراتب نسبتها 60 في المائة، ليرتفع أجره من 1.29 مليون جنيه استرليني في عام 2014 إلى أكثر من مليوني جنيه في عام 2015. وحصل ستيوارت سيدال، كبير الإداريين الماليين حتى أيلول (سبتمبر) من العام الماضي، على زيادة في إجمالي الأجر رفعت أجره من 785 ألف جنيه إلى 1.4 مليون جنيه في الفترة نفسها.
في الوقت نفسه، تأرجحت التزامات المعاشات التقاعدية في شركة ثيمز ووتر من فائض مقداره 26.1 مليون جنيه في عام 2008 إلى عجز حجمه 65 مليون جنيه في عام 2009، قفز إلى 260 مليون جنيه في عام 2016، ما يحتمل أن يجعل الموظفين مكشوفين في حال حدوث أزمة.
يقارن مارتن بليكلوك، وهو مدير سابق لمرافق الطاقة والكهرباء في البنك الأوروبي للإعمار والتنمية، بين عجز المعاشات التقاعدية والعجز الذي تعانيه "بي إتش إس"، شركة التجزئة المنهارة التي تم التنديد علنا بمالكها السابق، السير فيليب جرين، باعتباره "الوجه غير المقبول للرأسمالية" بسبب أخذه أرباحا في الوقت الذي خسر فيه الموظفون أموالهم التقاعدية. يقول بليكلوك "إن "ثيمز ووتر" و"بي إتش إس" تشتركان في خيط آخر مشترك: الملكية التي في كلتا الحالتين تم توجيهها من خلال الملاذات الضريبية التي يبدو أنها عملت على تفريغ الميزانية العمومية للشركتين".
قال سيدال، المدير المالي السابق، "إن أي مقارنة مع شركة بي إتش إس مجحفة تماما"، مشيرا إلى أن شركة ثيمز ليست في سبيلها إلى الانهيار وأنها تظل ملتزمة بالوفاء بجميع التزامات المعاشات التقاعدية.
وبحسب الشركة، العجز ارتفع فقط بسبب تخفيض العائدات على السندات الحكومية في المملكة المتحدة إلى النصف.
في الواقع، من خلال وضعها الاحتكاري وتزويدها لخدمات المياه والصرف الصحي لأكبر مدينة في بريطانيا، من غير المرجح أن تصبح شركة ثيمز ووتر ضعيفة مثل شركة التجزئة الفاشلة. لكن لن يكون هناك أيضا أي شخص منفرد يمكن أن يتعرض للمساءلة عن هذا الأمر، مثلما كان الحال مع السير فيليب في شركة بي إتش إس. على الأقل حتى عام 2015 لم يكن هناك سوى اثنين من المديرين التنفيذيين ورئيس لمجلس الإدارة، إضافة إلى عدد من أعضاء مجلس الإدارة غير التنفيذيين، الذين جرى بينهم أكثر من 30 تغييرا منذ كانون الثاني (يناير) 2014.
أي من التعاملات المالية التي تمت في شركة ثيمز ووتر لم تخالف القانون البريطاني. لكن هناك مخاوف تتعلق بما إذا كان هيكل الملكية المبهم في الشركة مناسبا لشركة حصرية لتزويد المياه مع التزام بحماية الصحة العامة والبيئة.

تحالف غير مقدس

تمت خصخصة شركة ثيمز ووتر أثناء فترة حكومة تاتشر. في السنوات القليلة الأولى، سمحت عملية الخصخصة لشركات المياه بجمع المال لتلبية التوجيهات الأوروبية المتعلقة بجودة المياه. مثلا، شهدت نظافة الشواطئ تحسنا كبيرا بعد عملية الخصخصة، بحسب ما يقول السير إيان.
لكن بموجب نظام توجيهي معقد تفرضه الجهة المنظمة، تضع شركات المياه حدا للسعر الذي يمكنها فرضه على الزبائن، استنادا إلى مزيج من النفقات التشغيلية والرأسمالية. يقول السير إيان "إن النظام يكافئ الشركات مقابل إنفاق المال على الاستثمارات الرأسمالية، سواء أكانت تصب في مصلحة العملاء أم لا. وهذا غالبا ما يأتي على حساب المهام التشغيلية العادية مثل منع تسرب مياه الصرف الصحي على مياه الشرب، وإيقاف تسرب المياه إلى أنابيبها الممتدة على مسافة عشرة آلاف ميل وتثبيت عدادات للمياه - واحدة من الوسائل الأكثر فاعلية في منع مياه الصرف".
تم إخلاء مئات الأشخاص من منازلهم ومحالهم التجارية في كانون الأول (ديسمبر) عندما تسبب انفجار الأنابيب في حدوث ثلاثة فيضانات في ضواحي لندن خلال أسبوع واحد فقط. يقول السير إيان "لو بقيت شركات عامة محدودة، لكانت قد تمكنت من الاحتفاظ بمدونة حوكمة الشركات. لكن ما يتسبب في الحصول على أرباح الأسهم الآن هو رفع قاعدة رأس المال الأساسية. إنه تحالف غير مقدس بين رجال السياسة وأسواق رأس المال".
أما النتيجة الأكثر إثارة للجدل لتلك الحوافز فهي "شبكة الصرف الصحي الفائقة" بتكلفة 4.2 مليار جنيه استرليني، التي يجري بناؤها تحت مدينة لندن، بحسب ما يقول. تقول شركة ثيمز ووتر "إن القناة التي يبلغ طولها 25 كيلو مترا ستجمع ما يقارب 18 مليون طن سنويا من مياه الصرف الصحي، التي خلافا لذلك يمكن أن يتم ضخها في نهر التيمز".
لكن يقول السير إيان، وكذلك كريس بيني، رئيس مجلس إدارة المجموعة التوجيهية لعام 2015، التي أوصت ببناء تلك القناة التي تسمى قناة ثيمز تايدوي، "إن المقترح الأولي كان يستند إلى بيانات خاطئة، وكانت هناك خيارات أرخص كان يمكن أن تكون فعالة أيضا".
وتوجد أيضا مخاوف مالية تتعلق بشبكات الصرف الصحي. قروض شركة ثيمز ووتر طويلة الأجل - بعضها كان يستخدم لتسديد دفعات للمساهمين الذين اكتتبوا مقتنياتهم في شركة ثيمز ووتر على شكل ديون في عام 2006/2007- ارتفعت أكثر من الضعف، من 3.6 ميار جنيه استرليني في عام 2007 إلى أكثر من عشرة مليارات جنيه في عام 2016. وأقل من 5.3 مليار جنيه فقط من هذه الديون طويلة الأجل يجري تمويله من خلال الشركة الفرعية التابعة لشركة ثيمز ووتر في جزر كايمان.
يقول بليكلوك "إن المستوى المتزايد من الديون في شركة ثيمز ووتر يعتبر حافزا للشركة من أجل فرض مزيد من الرسوم على العملاء". لكن في الوقت الذي كانت تقول فيه إن فواتيرها هي ثالث أدنى فواتير في البلاد وإن مديونيتها مماثلة لشركات المرافق الأخرى، قالت عندما تقرر بناء شبكة الصرف الصحي الجديدة تحت نهر التيمز، "إنها لا يمكنها دفع تكاليف البنية التحتية لأنها مثقلة بالديون".
التشريعات لعام 2013 كانت تقضي بتمويل المشروع من دون إدراجه ضمن الميزانية العمومية للحكومة أو الشركة. وعلى الرغم من أن نحو ثلث تكاليف البناء سيتم تمويلها من خلال زيادة في فواتير العملاء، إلا أن المبلغ المتبقي، البالغ 2.8 مليار جنيه، سيتحمله فريق من المستثمرين يسمى "اتحاد بازالجيت"، يضم شركة أليانتز كابيتال بارتنرز، وسويس لايف لإدارة الأصول، ودالمور كابيتال.
وبشكل غير عادي بالنسبة إلى مشروع بناء، سيحصل أولئك المستثمرون على دخل ابتداء من اليوم الأول، سيدفعه عملاء شركة ثيمز ووتر البالغ عددهم 15 مليون عميل. وستتحمل الحكومة مخاطر البناء.

مخالفات متكررة

يقول ستيف روبرتسون، الرئيس التنفيذي لشركة ثيمز ووتر، "إن الشركة تستثمر نحو 20 مليون جنيه أسبوعيا في تحسين الخدمات المقدمة للعملاء". ومنذ حوادث التلوث في مياه نهر التيمز في عامي 2013 و2014، تقول الشركة "إنها خفضت إلى النصف عدد حوادث التلوث التي تقع في مواقعها"، مضيفة أنها أجرت "مراجعة لكيفية تنفيذ الأمور على جميع المستويات وأجرت عددا من التغييرات الرئيسية المهمة".
لكن الحادث لم يكن حالة منفردة على الإطلاق. ففي العام الماضي تم تغريم شركة ثيمز ووتر مليون جنيه استرليني بسبب تفريغ متكرر لمياه الصرف الصحي في قناة جراند يونيون في هيرتفوردشاير في عامي 2012 و2013 ومبلغا آخر مقداره 380 ألف جنيه استرليني بعد تسرب مياه الصرف الصحي في منطقة مصنفة ذات بيئة طبيعية جميلة في تشيلتيرنس شمال غرب لندن.
رفضت وكالة البيئة تحديد مبلغ دقيق بخصوص تكلفة رفع قضية التلوث ضد شركة ثيمز ووتر، لكنها قالت "إن التكلفة تصل إلى مئات الآلاف من الجنيهات". وأضافت "بمجرد أن تختلط مياه شبكات الصرف الصحي بمياه النهر، سيكون من المستحيل تقريبا إزالتها".
وخصصت شركة ثيمز ووتر 1.5 مليون جنيه لاستصلاح النهرين. والمبلغ الذي تم جمعه من خلال الغرامات، البالغة قيمته 20 مليون جنيه، سيذهب مباشرة إلى وزارة المالية وهو يساوي نحو أسبوعين من الأرباح التشغيلية للشركة.
عودة إلى النهر، يقول باري مولين، رئيس مجلس إدارة نادي الصيد في نهر التيمز، "إن شركة ثيمز ووتر لم تتقدم بأي عرض لإعادة مستويات الأسماك والمياه إلى ما كانت عليه". وقال "سيستغرق الأمر سنوات حتى تعود مستويات الصيد إلى المستوى الذي كانت عليه".
يقول كينيدي، الذي يعمل حاليا مع "وقف الحفاظ على نهر التيمز"، "يمكنك أن تشرب من مياه النهار عندما تكون الأمور مدارة بشكل سليم. المياه أصبحت أفضل من قبل، لكن لا يزال هناك طريق طويل أمامنا".

الأكثر قراءة