كتب قتلت أصحابها
القاتل هو كتاب "رسالة الصحابة" وهي مخطوطة كتبت في العهد العباسي تتضمن النصح، فيما يتعلق بإصلاح شؤون الإدارة في الخلافة والقضاء على الفساد بين الحاشية والجيش والقضاء.
أما القتيل فهو صاحب (كليلة ودمنة) عبد الله بن المقفع, الأديب المخضرم الذي ذاع صيته في الآفاق لسعة علمه وأناقة أدبه وجمال روحه.. تم استدعاء ابن المقفع إلى العاصمة بغداد, حيث تم قطع يده اليمنى وشيها على النار وأرغم أن يأكل منها قبل أن يقتل!!
ولد عبد الله بن المقفع (واسمه قبل أن يسلم روزبا بن دازوية) نحو سنة 106 هجرية, في مدينة جور ببلاد فارس، حيث تثقف بالثقافة الفارسية واطلع على الأدب الهندي, ثم انتقل إلى مدينة البصرة عاصمة العلم وملتقى رجال الأدب آنذاك, فتشرب الثقافة العربية وكتب مجموعة مميزة من الكتب التي لا تزال تحتفظ بأهميتها حتى يومنا هذا, من مؤلفاته: كتاب (دينامه) في تاريخ ملوك الفرس, وكتاب (آبين نامه) في عادات الفرس ونظمهم ومراسم ملوكهم, وكتاب (الدرة اليتيمة والجوهرة الثمينة) في أخبار السادة الصالحين, وكتابا (الأدب الكبير) و(الأدب الصغير) اللذان يضمان الكثير من الحكم المستمدة من الثقافات الإسلامية واليونانية والفارسية أما أشهر كتبه على الإطلاق فهو كتاب (كليلة ودمنة) وهو مجموعة من القصص التي تدور على ألسنة الحيوانات, ويرويها الفيلسوف الملك دبشليم, ويبث المؤلف من خلالها آراءه السياسية في أساليب الإدارة والحكم, وقد اختلف الدارسون فيما إذا كان (كليلة ودمنة) من مؤلفات ابن المقفع أم أنه قد قام بنقله عن الهندية.
وكتاب (رسالة الصحابة) الذي قتل به المؤلف هو مجموعة من النصائح التي وجهها ابن المقفع للحكام والولاة بغية مساعدتهم على انتقاء الحاشية الصالحة وكبار الموظفين والوزراء, وطرق كشف الفاسدين منهم, ومما ورد في الكتاب من البيان والنصح:
" ومما ينظر فيه لصلاح الجند ألا يولى أحد منهم شيئا من ولاية الخراج فإن ولاية الخراج مفسدة للمقاتلة.. ومما يذكر به أمير المؤمنين أمر الصحابة (الحاشية) وأمر هذه الصحابة ممن لا ينتهي إلى أدب ذي نباهة ولا حسب معروف ثم هو مسخوط الرأي معروف بالفجور في أهل مصره, فصار يؤذن له بالدخول على الخليفة قبل الكثيرين من أبناء المهاجرين والأنصار وقبل قرابة أمير المؤمنين وأهل بيوتات العرب, ويجرى عليهم من الرزق الضعف مما يجري على كثير من بني هاشم و"سمعنا فريقا يقول بل نطيع الأئمة في أمورنا ولا نفتش عن طاعة الله أو معصيته, هم ولاة الأمر ونحن الأتباع وعلينا الطاعة والتسليم, وهذا القول ينتهي إلى الفظيع من الأمر في استحلال المعصية جهرا صراحا".
اشتهر ابن المقفع أنه من أصدق وأوفى الناس في زمانه فكان كريما عطوفا شغوفا بالجمال مؤمنا بقيمة الصداقة وإغاثة الملهوف ومن الحكايات التي تروى عنه أن عبد الحميد بن يحيى كاتب الدولة الأموية قد اختبأ في بيته بعد قتل مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية لكن رجال الدولة العباسية الجديدة توصلوا لمعرفة مكانه ودخلوا عليهما بيت ابن المقفع وسألوهما: أيكما عبد الحميد بن يحيى؟ فقال كلاهما: " أنا "!! فقد قبل ابن المقفع أن يضحي بنفسه لفداء صاحبه لكن رجال الخليفة عرفوا عبد الحميد وساقوه إلى السجن.
ذهب عبد الله بن المقفع ضحية للسياسة ومؤامرات وأحقاد السياسيين الذين أوغروا صدر الخليفة أبي جعفر المنصور وحرضوه على قتله ظلما وبهتانا فخسرت البشرية عقلا أخذ بألباب أبناء عصره وأذهل محبي الأدب والعلم حتى يومنا هذا.