الصورة تتفاعل مع العقل الباطن لخلق التأثير، وتمارس الخداع الممكن ضد المتلقي!!
الصورة كلمة!! بل ربما تكون في كثير من الأحيان الصورة أكبر وأكثر تأثيرا من أي كلمة تقال. ولذا يصح القول اننا نعيش عصر الصورة Image Age بكل أشكالها وأنواعها، لا سيما والصورة تعيش أزهى عصورها في ظل التقنيات الحديثة، والتطور السريع، وجملة التأثيرات التي يمكن إدخالها على الصورة الثابتة أو المتحركة.
الإعلام اليوم والدور البارز الذي يتبناه، فرض حقيقة بالغة الأهمية، وهي أنه أول من يعبر إلى منطقة الحدث، وفي كثير من الأحيان يكون آخر الخارجين منه، وهذا الدور الرئيسي للإعلام منحه سطلة تقوية أثر الصورة، وجعل الصورة ذات قوة عظمى في تأويل الحدث وتفسيره، بل وفي بعض الأحيان تحليله والاستنتاج منه . هذا يعكس بشكل أساسي القدرات التقنية والفنية التي أصبح من السهل إدخال الصورة ضمن منظومتها، ويعكس كذلك الجدلية القائمة في الإعلام وهي أن دلالة الصورة هي دلالة متعدية، وليست أبدا – أي الصورة – أحادية الدلالة.
وانعكاسا لأهمية الصورة أصبح التلفاز أشد تأثيرا وأكثر قوة وأسرع نقلا للحدث والمعلومة من المذياع، الذي يعد الصوت فيه وحاسة السماع الركيزة الأساسية للتداول والبث. فالمشاهد للتلفاز يسمع ويرى ومن خلال الصورة يستطيع أن يحلل ويقارن ويستنتج، فالسمع والبصر يؤثران بشكل رئيسي في الإنسان عند محاولته إدراك أي معنى . طبعا كل ذلك على مستوى الصورة المتحركة التي يتميز بها التلفاز كوسيلة اتصال جماهيري.
تحاول الصحف أن تحدث تأثيرا لا يقل عن التلفاز من خلال الصورة الجامدة أو الثابتة، والتي يشكل فيها انعدام الحركة والتفاعل قصورا كبيرا على مستوى التأثير لدى المشاهد، إلا أن الصورة لا تفقد كل مميزاتها، فتأثيرها متحقق، خصوصا مع التقنيات الإخراجية الجديدة، وخلق مساحات أكبر للصورة داخل الإطار الإخراجي. وبالرغم من أن الصورة في الصحافة تستخدم لأغراض عديدة من أهمها: جانب التزيين، وسد الفراغ، وتأكيد الحضور، ودعم المادة التحريرية، إلا أن الغرض الأهم هو تأكيد المصداقية وخلق أثر أكبر لدى القارئ. من هنا نجد أن فعل الصورة داخل الصحيفة لا يقل عن فعل الكلمة بأي حال من الأحوال. ولذا يجدر بنا القول إن الصورة قرينة للحقيقة في كثير من الأحايين . واستخدمت الصورة بفاعلية في تأطير وزرع ثقافة الحب واللاحب، وأيضا التأييد والمعارضة، كل ذلك يتأتى من خلال الاستمالات العاطفية التي تقدمها الصورة للمشاهد والقارئ.
فالصورة أصبحت تملك لغة مستقلة، فالصورة الحدث، أو الصورة العاطفية، أو الصورة ذات الاستمالات الدينية أو العقدية أو الأيدلوجية، كلها تصب في تأكيد خلق الحالات الانطباعية المباشرة، والتي يترتب عليها خلق قرارات فردية أو جماعية تجاه أمر ما، أو حدث معين.
ومن هنا نجد أن الصورة المزيفة Faked Image - عند انتفاء المسوغ الأخلاقي- تقدم لنا "خداعا ممكنا" باستخدام التقنيات الفنية، وهي في الوقت نفسه تمنح قيمة لما لا قيمة له، وتساعد على انتشار ثقافة اللامعنى، ولاشك أن الصورة الرقمية وطرق تحريرها Digital Image Editing أسهمت في هذا الأمر، وخلقت أثرا مبالغا فيه للصورة، من خلال طرق إبداعها ووسائل تعميمها . ولذا يصبح من الصعب على المشاهد أو القارئ التفريق بسهولة بين القيمة الحقيقية والقيمة المصطنعة.
كل ذلك يقودنا إلى أمر مهم وهو أن العقل الباطن لدى الإنسان مملوء بالصور والأحداث التي في حاجة للترجمة والنقل والتعبير عنها بطريقة ما، وربما تسهم الصور في هذا الأمر بشكل غير مباشر، مما ينتج لدى الإنسان ما يسمى بالعقل البصري. وهو العقل المبني على ترجمة ما يراه البصر.
يمكن للصورة أن تفعل مالا تفعله آلاف الكلمات. فالصورة بسهولة يمكنها أن تحدث تأثيرا اجتماعيا، وتربويا، وثقافيا، وفكريا أيضا. بل إن الصورة تخلق دافعية كبيرة في كثير من الأحيان لتعديل المواقف والاتجاهات المتبناة من قبل المشاهد . فالمشاهد الذي يتعرض لحجم كبير من الصور من خلال وسيلة الاتصال التي يتقاطع معها، لاشك أنه سيبني موقفا ما، هذا الموقف يعتمد على شكل الحراك الذي تخلقه الصور داخله.
ولعل هذا يدفعنا للجزم بأن الصور عموما المتعلقة بذات الحدث يربطها نظام علاقات ما Relations System. فما تقدمه صورة ما، يمكن أن تفسره صورة أخرى، وما لا يمكن استيعابه في صورة، يسهل فهمه من خلال صورة أخرى. هذا النظام الذي يربط بين الصور يعد مثل القاعدة البصرية Visual Rule التي يؤول لها الإنسان كل مرجعيات الفهم والاستيعاب. والأذكى في أمر الصورة، أن بعض الصور تترك للمشاهد إكمال ما لا يراه، وكأن المشاهد جزء أساسي من عملية صناعة الصورة. وهنا نجد أننا نعود للعقل الباطن وتأويله للحدث الذي قد يكون استباقيا في بعض الأحيان.
إلا أن من الإشكاليات الأساسية للصورة هي أنها تحدث حالة من إنعدام الاتصال الفاعل الحقيقي، وهو الاتصال المبني على كل علاقة مباشرة وفعل اجتماعي حقيقي، إذ تحتل الصورة محل الاتصال المباشر، مما يعني أن التأويل هنا هو الأكثر فاعلية، ولذا يمكن للمشاهد أن يبني تصورات ويتخذ مواقف قد لا تكون صائبة، إذ إنها معتمدة على تراسل الحواس، وليس على الإدراك المباشر.
وباعتبار أن الصورة كلمة أساسية في وسائل الاتصال الحديثة اليوم New Media، فهذا يدفعها بقوة، لتحتل مكانة أساسية ضمن منظومة الخطاب الإعلامي Media Discourse المصدر للمشاهد. فالخطاب هنا يتشكل بفعل التراكم الذي تخلقه الصورة، وأيضا بفعل التأثير المتأتي من خلال الصورة والذي يتعرض له المشاهد بشكل دائم. فالمشاهد - غالبا – محاصر بكم كبير من الصور والتأثيرات البصرية، التي تدفعه لتقبل الخطاب، بالرغم من عدم قوته أحيانا. ولكن التأثير البصري أحدث دفعة نوعية، وفعلا أقوى في عملية القبول والتأييد، وربما التبني لاحقا.
وفي الوقت الذي تعد فيه الصورة جزئية أساسية ضمن مركب الثقافة الغربية، لا تشكل الصورة البعد ذاته في ثقافتنا العربية المشرقية، أو لنقل في محيطنا الأصغر - الجزيرة العربية – فثقافة "المحكي" و"المروي" هي الركيزة الأقوى تاريخيا، ولكن لا يمكن إطلاق هذا الكلام في مجمله، فالتغيرات التي يعيشها المجتمع المشرقي عموما، والعربي تحديدا، أسهمت بوضوح في دفع الصورة لتكون ضمن المركب الثقافي عموما، وإن كانت بنسب أقل، تزيد أو تنقص من مكان لآخر.
الصورة هي الوجه الأكثر تعبيرا لحدث أو فعل إنساني، ولذا فهي الحلقة متعدية التأثير في الحلقة الاتصالية بين وسائل الإعلام وبين المشاهد، ويمكن للصورة، أن تكون الأداة الإعلامية الأسرع في نقل الرسالة الاتصالية لشرائح مختلفة الاتجاهات، ومتباينة الأفكار والثقافات.