الروائي العراقي خضير ميري.. محاولة إصلاح العالم بالجنون!
هل يمكن لمجموعة من المجانين في مستشفى للأمراض العقلية أن يبحثوا عن حل للجنون الموجود في العالم الخارجي؟ هذا ما حاول أن يقوم به الكاتب العراقي خضير ميري, الذي أقام فترة من حياته في مستشفى للأمراض العقلية, من خلال روايته الجديدة "أيام العسل والجنون", التي صدرت أخيرا في القاهرة وأقام لها أتيليه القاهرة للفنون ندوة لمناقشتها شاركت فيها الكاتبة سلوى بكر والكاتب العراقي المقيم في لندن عبد المنعم الأعثم والناقدان صلاح السروي وشريف الجيار. وفي بداية الندوة أشار الأعثم إلى أن الرواية مكتوبة عن عالم مرضى عقليين تحت الحرب والفقر والحرمان, وقال إن الأقدار ألقت بميري في مستشفى الأمراض العقلية وجعلته منشغلا عن العالم المملوء بالحروب بالتأمل الفلسفي, وعلى الرغم من أن الكاتب حاول أن يوحي لنا أنه العاقل الوحيد بين هذه المخلوقات إلا أنه أمر لم نأخذه مأخذ الجد.
وأضاف أن الرواية تمضي في ثلاثة مسارات وهي الحرب، التي نجدها تضم داخلها أدوات وقيما وأهوالا. والمسار الثاني هو الجنون، وهو يميز بين جنونين الأول يسميه الأسود وهو جنون سادة الحرب, والثاني جنون الضحايا من أبناء تلك الأرض, وهو الجنون الأبيض. أما المسار الثالث وهو قدر الكاتب الذي ينظم الأحداث ويتكفل بمسؤولية ألا تنفرط، وحاول الكاتب أن يقنع قارئه منذ بداية العمل بمصداقيته ويحررنا من موقف المتفرج لينقلنا إلى موقف الاحتجاج.
أما الكاتبة سلوى بكر فقد أشارت في البداية إلى أن هذا النص ليس بالرواية, كما أنه لا ينتمي إلى أي جنس أدبي, بل إن انتماءه إلى ذاته, فهو يعنى بتوصيف الجنون ولأجل هذا أنشئ على غير ذي مثال فهو غير معني بالحدث والشخوص المتحركة له إلا بما يشكله ويرسمه لملامح الجنون وهيكله.
وقالت بكر إن الجنون اليومي المعتاد لجماعة بشريه تعاني حالة الخروج عن المتفقات القيمية لمجتمع أكبر كانوا يعيشون فيه تقتحمه طائرات حربية كبيرة أو بطة حديدية كما جاء في الرواية تمثل جنونا أسود من نوع آخر وهو جنون الحرب التي تحيل العالم المحصور بين أوجاع النفس وعدم القبول في الهيئة الاجتماعية لمخالفة الشروط إلى جحيم من نوع آخر وهي تبعات الحرب، وإذا كانت إشكالية الجنون الأساسية افتقادنا تعريفا واضحا ومحددا فإن حل هذه الإشكالية يبقى ممكنا على أرضية التوصيف والتشكيل, وربما كانت هذه هي المهمة الأولى لهذا النص. فالجنون الذي أدى إلى قصف ملجأ العامرية للأطفال بالطائرات الأمريكية، أي الجنون الأسود وفقا للمؤلف، والجنون الذي أدى إلى قصف مستشفى الرشيد للأمراض العقلية في بغداد لا يمكن تعريفه مثلما لا يمكن تعريف جنون جميع أولئك الذين كانوا نزلاء هذا المشفى. ولكن الجنونين يمكن توصيفهما, وهو توصيف يمكن من خلاله استنباط التعريف، فالمعيارية المرتكز عليها, أي تعريف للجنون تظل معيارية نسبية ولا تفتقد ما هو مجازي يحيل بينها وبين درجة الإطلاق, وإذا كان التوصيف هو مهمة السرد هنا، والمنتج لخطاباته المفضية إلى تعريف أو تعريفات للجنون فإن لغة السرد تظل البطل الحقيقي لهذا العمل, فهذه اللغة تنتمي إلى قاموسية جنونية مبتدعة, أي منشأة على غير مثال سابق، إنها لغة ترسم الجنون وتلونه بتلاوين شتى, وهي غير معنية بسؤال: كيف يكون المرء مجنونا؟ ولكنها معنية بسؤال كيف يكون مذاق الجنون؟
وأضافت بكر أن عوالم الجنون المرئية والمسموعة تنتج سردا يجب أن يكون له منطقه الداخلي المبني على افتراضية وجود عقل مواز، فعالم المجانين في مستشفى الرشيد هو مسرح كل هذه الصور العاقلة الدامغة لجنون آخر لا يمكن تفسيره أو تبريره مثل جنون نزلاء المستشفى الذي أفرد الكتاب في نهايته طرفا من أخباره وحكاياته عبر مجموعة من القصص التي ربما تبدو من الوهلة الأولى وكأن لا علاقة لها بالنص الممتد على مدى 11 فصلا, ولكنها في حقيقة الأمر قصص من صميم بنيته.
أما أستاذ الأدب في جامعة حلوان الناقد الدكتور صلاح السروي فقد اتفق مع سلوى بكر في أن هذا النص لا يندرج تحت تعريف الرواية, وقال إن "النص يدور بين عالمين, عالم داخلي وآخر خارجي، وفي واقع الأمر فعالم الخارج هو الذي يزكي حالة الجنون التي يطرحها هذا الكتاب, فهؤلاء المرضى قد انسحبوا إلى الداخل وليس منهم أي خطر مثل العراق الذي سلم كل ما لديه من أسلحة وفتح أبوابه للمفتشين, وربما هذا الانسحاب هو الذي جاء بهذا الجنون الخارجي البديل, فالطائرات الأمريكية جاءت ـ كما وصفها النص ـ دون حمالة صدر, وهذا يدل على حالة من العربدة والانفلات الأخلاقي, أي أننا أمام خصم لا يأبه بشيء, وجاء وقد استقوى بهذا الانسحاب. وأنا أريد أن أنهي بأن الرواية ليست رواية مقاومة وحرب, بل هي رواية عن الحرب تحاول أن تجسد الوجه الآخر للحرب, وخضير ميري في هذه الرواية كان أقرب إلى همنجواي أو شولخوف في روايته (مصير إنسان)".
أما أستاذ الأدب في جامعة بني سويف الدكتور شريف الجيار فقد قال: "أرى أن خضير ميري في هذا النص لا يمثل سردا بل كتابه عبثية غير معقولة عن عالم غير معقول, فالكاتب في الجزء الأول من العمل يحاول أن يثبت أنه فيلسوف في التعامل مع الحياة والاحتلال الأمريكي للعراق, وأكد ذلك اللغة العبثية التي كتب بها وكذلك الجملة المكسورة, فهو يرى العراق والواقع العربي بشكل مختلف عن المثقف العربي، فالجنون الذي يرصده ميري هو جنون الواقع والبؤس الفكري العربي، فهو يريد أن يقول إنني وطني عراقي عربي وينبغي عليك أيها المفكر أن تفكر معي في كيفية حل هذه الأزمة لأنني أعاني عبثية الفكر تجاه هذا الواقع العبثي الذي نعيشه".
وأضاف: "أما الجزء الثاني من السرد فينتمي إلى القصة القصيرة ونجده يأخذ نماذج من الواقع العراقي المأزوم ويدخل به إلى عالم ضيق وهو عالم المستشفى ويرى أن ما يفرق بين العالمين الداخلي والخارجي سور معنوي, فالإنسان العربي أصبح يحمل المفارقة داخل تشكيله النفسي، والسارد في الجزء الثاني يمثل الطبيب النفسي الذي يعطي المريض فرصة الحكي وإفراغ ما في داخله من آلام وأحزان, فالأزمة الاجتماعية هي التي جعلت الشخصيات تفقد الوعي وتشعر بالدونية, وخضير ميري في هذا النص يتحدث عن العالم المحيط بالمصحة لأنه السبب في وجود هذه المصحات".