مفهوم المؤسس في إدارة الدولة: استشارة رجال يعملون بصدق وعلم وإخلاص

مفهوم المؤسس في إدارة الدولة: استشارة رجال يعملون بصدق وعلم وإخلاص
الملك عبد العزيز
مفهوم المؤسس في إدارة الدولة: استشارة رجال يعملون بصدق وعلم وإخلاص
الملك عبد العزيز خلال زيارته التاريخية إلى مصر وفي استقباله الملك فاروق.

عندما استعاد الملك عبد العزيز الرياض 1902 برفقة رجاله الرواد الميامين الذين لم يتجاوزوا العشرات وعلى رأسهم أخوه محمد بن عبد الرحمن وأبناء عمومته عبد الله بن جلوي وفهد بن جلوي وعبد العزيز بن مساعد بن جلوي، انطلق في مسيرته الأولى لتوحيد هذه البلاد في نشاط عسكري دائب مستعينا في اختياره للرجال بمعرفة ثاقبة وتجربة غنية وفراسة متمكنة.

#2#

ثم أنه أدرك، رحمه الله، في وقت مبكر حاجته إلى من يساعده في تنظيم شؤون دولته الناشئة من الموظفين والمستشارين، فعمل على التحري عن الأكفاء المؤهلين من أبناء البلاد وخاصة ممن نال نصيبا من التعليم والاطلاع والخبرة سواء فاستعان بمن كان منهم في الداخل واستلحق من كان منهم في الخارج، فتكوّن لديه في البداية فريق جدير بالقيام بما يسند إليه من واجبات ومسؤوليات من أمثال أحمد الثنيان وعبد الله بن سليمان وإبراهيم بن معمر وغيرهم، وقام في وقت لاحق بالاستعانة بأبناء العرب من شتى الأقطار، لأنه قدّر أن استقطاب الخبرات من تلك الأقطار التي نالت حظا من التعليم والتنظيم يعكس نظرته تجاه الأمة العربية والإسلامية، ويتماهى مع شعوره القومي الصادق ومع انتمائه الحقيقي للأمة، كما يسهم في بناء المنظومة الإدارية والاقتصادية والسياسية للدولة، وكان يقول: "أريد رجالا يعملون بصدق وعلم وإخلاص حتى إذا أشكل علي أمر رجعت إليهم في حله وعملت بمشورتهم فتكون ذمتي سالمة والمسؤولية عليهم وأريد الصراحة في القول".

ومع أن الملك عبد العزيز ـــ كما يؤكد محمد جلال كشك في كتابه (السعوديون والحل الإسلامي) ـــ يكاد أن يكون أقوى فرد ظهر في الأمة العربية خلال القرن الـ 20، إلا أنه كان يؤمن بالشورى ويرى أن الفرد لا يستطيع وحده أن يبني دولة ولا يقرر مصير أمة، وكان يعرف أن الإمبراطوريات والدول الكبرى لم تقم بفضل زعيم موهوب بل بتعاضد مجموعة الرجال الأكفاء على جميع المستويات وهذا ما جعله يحرص على كسب كل كفاءة وضمها إلى دولته.

وفي تاريخ 28 شوال 1342هـ الموافق للأول حزيران (يونيو) 1924 نشرت حكومة نجد وملحقاتها بلاغا موجها إلى العالم الإسلامي والشعب العربي مما جاء فيه: "أيها الشعب العربي الكريم إن نجدا قد حافظت على استقلالها في جاهليتها وإسلامها ولم يدنس أرضها قدم أجنبي مغتصب وستبقى محافظة على حقها ـــ إن شاء الله ـــ ما بقي في شعبها عرق ينبض. إن نجدا تمد يدها لكل من يريد خير العرب ويسعى لاستقلال العرب وتساعد كل من ينهض لتحرير العرب واتحاد العرب. إن نجدا ترحب بكل عربي أبي وتعد أرضها وطنا لكل عربي سوري أو عراقي أو حجازي أو مصري...".

كان هذا البلاغ الذي لفت أنظار دول الاستعمار وأثار ريبتها أشبه ما يكون بالدعوة المفتوحة لكل رجال العرب الأحرار الذين أبت نفوسهم أن يقيموا على ضيم المستعمرين الذين كانت وعودهم للعرب قبل الحرب العالمية الأولى (1914 ـــ 1918) وأثنائها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، فأصبح العرب كالمستجير من الرمضاء بالنار، فيمم طلائع منهم ركابهم إلى عمق الجزيرة العربية، إلى أرض العرب المستقلة، إلى بلاد نجد تحت ظلال ابن سعود الذي ما لبث بعد هذا النداء شهورا إلا وقد تولى على الحجاز وضمه إلى دولته الناشئة، فالتحق بخدمته من التحق من أهل الشام والعراق ومن مصر ومن ليبيا، ثم ما لبث أن طوى معظم الجزيرة العربية تحت سلطانه فكان بلاطه مركز الجذب وكانت دولته محط الأنظار، فتوافد إليه رجال العرب من كل صوب.

يؤكد فهد المارك إن جميع أحرار البلاد العربية المناضلين ضد الاستعمار بعد الحرب العالمية الأولى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت لم يجدوا في ذلك الوقت ملاذا يلتجئون إليه بعد الله إلا ابن سعود الذي لم يكن يعاملهم معاملة اللاجئين السياسيين المتوقفة على الإكرام والحماية بل يعاملهم معاملة مواطنيه.

كما أنه لم يضع في بلاده عقبات تمنع أي عربي ولا أي مسلم يرغب في الإقامة والعمل فيما يناسبه، ولم يضع عراقيل دون الراغبين في الحصول على الجنسية السعودية؛ فقد كان يمنحها لأي عربي يطلبها ويفسح له ميادين العمل فيما يتلاءم وكفاءته ومؤهلاته وميوله.

وما من حاكم عربي أفسح المجال لغير مواطنيه لدخول السلك السياسي الذي يعتبر العمود الفقري في كيان الدولة غير الملك عبد العزيز، وقد حاول المارك حصر من نالوا رتبة سفير أو وزير مفوض من الإخوة العرب فأشار إلى واحد من مصر، وأربعة من سورية، وخمسة من لبنان، وواحد من ليبيا، وواحد من العراق، وثلاثة من فلسطين.

ويرى كشك أن الملك عبد العزيز هو الحاكم العربي الوحيد الذي أحاط به مستشارون من معظم الجنسيات العربية، وأن ديوانه كان أول وآخر مجلس حكم منذ الدولة العباسية وجد فيه المصري والسوري واللبناني والليبي والعراقي والفلسطيني، وقد استطاع أن يكوّن منهم مجموعة متناسقة تعمل وفق توجهاته وفي إطار مخططاته، ولم يستطع مستشار مهما كانت مكانته، ومهما بالغ في الظن بأهمية نفسه، أن يفرض عليه خطا سياسيا لا يرضاه، أو أن يزج به في قضية إقليمية حسب هواه.

ويفسر كشك ذلك بكون الملك عبد العزيز رجل عظيم يدير الرجال ولا يمكن أن يديره المستشارون، ولذا فلا عجب حين يرى من رجال الملك عبد العزيز ومستشاريه من كان يعمل في السابق لدى خصومه السياسيين مثل الشريف حسين أو ابن رشيد أو غيرهما، فمتى ما ثبت لديه كفاءة وإخلاص الرجال فإنه يمنحهم الثقة ويتيح لهم الفرصة لخدمة بلادهم وهذه من النوادر التاريخية التي تميز بها الملك عبد العزيز عن غيره من الحكام.

ومع ذلك فلا يجوز أن يفهم من ذلك أن مستشاريه كانوا إمعات لا يرون إلا ما يرى بل بالعكس لأنه كان يتخير الرجال الذين يملكون استقلالية الرأي والقدرة على تقديم المشورة الحقيقية، كما يشير وهبة إلى أن الملك عبد العزيز لم يكن يحيط نفسه بأولئك النفعيين الذين جبلوا على النفاق وتزيين الأمور للحاكم مهما ساءت، ولذا كان أشدّ ما يكره قول عامّة الناس في نجد (الشيوخ أبخص) التي يراها رمزا للتملّق، فيطالب مستشاريه بالصدق والصراحة لأنه لو كان يعلم كل شيء لم يستشر ولم يسأل، ومن جهته كان الملك عبد العزيز يثق بمستشاريه ويحترم مسؤولياتهم.

وفي هذا العرض نتناول تراجم مقتضبة لعينة من المستشارين المقربين من الملك عبد العزيز وكذلك بعض الرجال الذين استعان بهم في أعمال الدولة السياسية والدبلوماسية والإدارية لنسلط الضوء على رجال أسهموا في بناء وتأسيس الدولة وقد اقتصرنا على من استطعنا الحصول على صورته وتوقيعه أو ختمه كنماذج متنوعة لأولئك وإلا فرجال الملك عبد العزيز أكثر من ذلك بكثير.