... ياجاحظ ليتك تبعد عينيك عني فأنا مشتاق إلى طوقان
يحمل حقيبته وقد "لملم" دفاتره وأقلامه المتعبة.. ما يفتقده وداع أمه وقبلتها الصباحية، وفطورها الشهي الذي طعمه في الذاكرة ألذ. هاهو تنتهي به الشوارع إلى معتقله وساحة اللاجدوى التي لاينشدها، مصنع التكرار الذي لا ينتج سوى خيبة الأمل وانتظار الموت.
عندما يمشي ترى فيه جميع أشكال الهزيمة. وانعكاسات الجمود الرازح في باطن الأرض و الجاثي على سطحها.
هذا التيه المنتشر على امتداد وجهه جاء من تيه. كل برمجيات الدنيا والقرية الكونية لا تصنع منه معجزة. جلسته ملل من وقفته، وقوفه ملل من جلوسه.
يحركه جرس يمخر أذنيه فيزيد في تهدلهما. كم هو مزعج هذا الطنين الذي يحرمك من رؤية الوقت يتراقص بين عقارب الساعة.
حتى في ضحكته التي تتطاير منها قطرات الشاي تخفي أبعاد انكساره ونزف مستقبله الذي لا وجود له في قاموس التعليم . التدريس هي المهنة الوحيدة التي تظهر على صاحبها، فشكله معروف حتى لو لبس بزة رواد الفضاء.
في الطابور وقوفا بها وفي الفصل وقوفا عليها. نحن كأقلام السبورة تنتهي فترمى. كأوراق دفتر اعتراه النسيان. قطيع ، شتاته كلمة. وحصاره دورة الكلمة.
لا لا تراجعُ في دهاليز الوزارة، فأنت خاسر في معركة أنت فيها بيدق بلا سلاح. من الطابق الأول حتى العاشر ستطاردك نظرة في كل الوجوه تقول لك: عد لا أمل. من الحارس الذي يمنعك من الوقوف إلا على بعد كيلو، حيث الحر ينهشك والعرق يزرع أوديته في جسدك. فتصل البوابة وقد انطفأ النور، وخابت الرسالة. ويبتدىء مشوار البحث عنك في ورقة أنت منها صادر وإليها وارد. مجرد رقم وتاريخ يسير إلى الأمام وتسير معه إلى الوراء. الكل يحولك إلى آخر حتى تحوَل عيونك. صعودا ونزولا بين المكاتب محصيا عدد السلالم والأدراج. لم نأخذ من التكنولوجيا سوى فاتورة الشراء.
تنتقل من مدينة إلى مدينة لتسأل عن إجابة سؤال.
لعل من عيوب الجوال أنه إلغاء هاتف الوزارة.
أيها المعلم يا صديقي البائس: أتريد النقل إلى مرتع الطفولة؟
هيهات. أنت نصير الشقق، مفروشة كانت أم عارية. وحامي حمى المطاعم والمحرك الرئيس لاقتصاديات البقالات..
أتريد إكمال دراستك؟
قل ما أطولك ياليل، وانتظر حتى يحمر شيبك إيذانا بالسكتة التعليمية.
أتريد علاجا؟
لن تشفى. فالضربات ستنهال عليك مرارا. والمصحات العقلية أكثر أمانا. وسيتم صرف واق ضد لكمات ورفاسات الطلاب.
أتريد رفعا لمستواك؟
أنت أفضل من غيرك وهذا الغير لا تدري أين هو. أهو خريج توسد شهادته بعد أن أعياه السباق الماراثوني بين الدوائر والحارات والشوارع التي لهثت تعاطفا معه. أو هو من أحد عشر في مقهى يشتركون في رأس معسل واحد يتجاذبون أطراف الريموت.
في كل التعاميم التي ليس فيه جديد والتي لو وفر ورقها لبني في كل مدينة وقرية مدرسة، لا يوجد سطر واحد فيه مصلحة للمعلم بل تحجيم له وتدوير. والمعلم في ذيل الصفحة مفعول به جاء صامتا لعلة به.
لعل من مآسي التعليم أن الموظف لا يدري ما عمله. وإن علم لا يؤديه فهو جاهل في الأنظمة الإدارية والقوانين الإنسانية وجل ما يتقن حبس معاملة في درج، وادعاء ضياعها أو إعطاءك معلومات خاطئة تتخبط بسببها حد التقاعد.
قسم مغلق في الكلية لا يعلم من ابتعاثك إليه إن القسم يسلم عليه منذ اثنتي عشرة سنة.
عجبي! لا عزاء إذا كان من عليها لا يستطيع الدوران. حدوده زاوية غير منفرجة. تطير أحلامك كعجلة شاحنة قائدها أعرج ثقبت في طريق ليس فيه أنيس. إلا الصدى وأزيز عاصفة رملية.
كيف نطلب من طائر كسر جناحه أن يعلمنا الطيران. كيف نطلب بناء مستقبل من بناة مقزمين.
قال صديقي: عندما زرت مدينتي سألني أحدهم: ماذا تعمل؟ فأجبته: معلم.
فرد: (مو عيب)
وقال آخر( وكان حديث التعيين): دخلت على أحد المسؤولين فنهض مرحبا وعندما عرف مهنتي اعتذر لكرسيه!
ليتك يا جاحظ تبعد عينيك عني فأنا مشتاق إلى إبراهيم طوقان.