مدائح شعراء الخليج في الساسة العرب.. انتهازية أم زئبق عاطفة؟
خطأ الشاعر العامي في الخليج خطوات جريئة باتجاه كتابة قضايا وهموم أمته، إلاّ أنه تراجع كثيراً إلى الوراء باتجاه الغزل، والذي يعتبر في الشعر الشعبي قضية من لا قضية له، وإن أردنا أن نرصد هذا التراجع زمنياً فسنجد أن التراوح بين الرجوع والتقدم بدأ إبان حرب الخليج الثانية، تلك التي كشفت لكل أبناء الخليج أن أبناء عمومتهم ليسوا كذلك! وأن ثرواتهم هي المسرح الحقيقي لوجوه العرب، ضاحكةً لأجله وعابسةً لأجله، حينها تحطمت كثير من التماثيل التي بناها شعراء الخليج، وأولها كان تمثال صدام حسين الذي سقط فعلياً في 2 أغسطس 1990م يوم أن قررضمّ الكويت إلى سجنه الكبير، هذا اليوم التاريخي أعاد المشهد التاريخي ليوم النكسة العربية وبداية انقسام العرب بكل فنونهم وتوجهاتهم حول عبدالناصر وأسطوريته التي تناوبوا على خلقها وتصديقها، فبدأ الشاعر العامي الخليجي في تصحيح أخطائه السابقة في مدح وتعظيم صدام حسين، وهذا التصحيح لا يعني الاقتناع دائماً، وهو ليس بأكثر من ردة فعل عاطفية حدثت كثيراً في تاريخ الشعرالعربي القديم، وأكثر الأمثلة على ذلك وضوحاً هجاء المتنبي لسيف الدولة الحمداني بعد أن خلّد القوافي في مدحه وتعظيمه، والشاعر العامي هو الوريث الحقيقي للشاعر العربي القديم في عاطفيته وانتهازيته وسلوكياته ومزاجيته وهو في أفضل حالاته ليس بأكثر من ترمومتر شعبي يعتمد على زئبق العاطفة، لذلك تجده أول الحضور في أي طارئ يشغل الأمة، يحضر ليترجم العاطفة الشعبية إلى نص يؤطر القضية ويحضر في أحيان أخرى لينتهز فرصة الظهور تحت الأضواء الكاشفة، ولو أردنا الحديث عن المدائح التي قالها شعراء الخليج في صدام حسين قبل حرب الخليج فلن ننتقل إلى أي مثال آخر، لكثرة ماقيل في مدحه، ولو أردنا أن ندلل على عاطفية الشعراء العاميين في الخليج فلن نجد شخصية عربية أكثر إثارة من صدام تكفي كدليل حيّ على ذلك، فحين كان يحارب إيران كان صدام "سيف العرب" و "حامي البوابة الشرقية" وحين غزا الكويت أصبح "الجار الخائن" و "العميل السري" وحين ألقت القوات الأمريكية القبض عليه وسيق إلى المحكمة وعلقت له المشنقة انقسم حوله شعراء الخليج، فمن شاعرٍ يراه الشجاع العربي المسلم الكبير، إلى شاعرٍ يراه فأراً لا أكثر، وهنا تتضح العاطفة العجيبة التي تتحكم في نتاج الشاعر العامي في الخليج، وفي مثل هذا الخلط العاطفي يصعب أن تجد منطقةٌ وسطى يمكن لك أن تفصل بها بين جنة الوعي ونار العاطفة، اللهم في نتاج بعض الشعراء الذين يجيدون اللعب على أوتار الحذر بشاعرية فذة كقول الشاعر خلف مشعان يوم ألقي القبض على صدام حسين من قبل القوات الأمريكية:
أكبر مصيبة للعرب طيحة الثور
على الأقل ينطح ويقدر يعافر!
ففي هذا البيت لا تستطيع الجزم بالمدح أو التيقن من الذم.
ومن أغرب المدائح التي نالها رئيس عربي من شاعر خليجي هو ماقاله الشاعر مساعد الرشيدي في الرئيس الأكثر غرائبية في العالم وهو الرئيس الليبي معمر القذافي، ومكمن الغرابة في أن معمر القذافي لم يكن في يومٍ من الأيام ذا فعل حقيقي في أي قضية عربية أو إسلامية، فهو معروف بأنه لا يجيد ولا يحب سوى قلب الحقائق وإثارة السخرية أينما حلّ، لذلك بقي بعيداً عن عين الشعر، عن هذا التمجيد غير المستحق يقول مساعد الرشيدي إنه أحرج كثيراً عندما لم ينظم قصيدة بمناسبة زيارته للجمهورية الليبية, وأشار مساعد أنه في الموقف الصعب ألهمه الله ببيت واحد فقال:
كرمالك يا دار شعشع نور الفجر وجمر
ولع دم الليبي نارمن عمر المختار لمعمّر
من المؤكد أن مساعد الرشيدي يشعر الآن بندم كبير على هذا البيت الجميل الذي ذهب لمن لا يستحقه، ومن المؤكد أن مساعد يعتذر في قلبه كثيراً للمجاهد المسلم عمر المختار لوضعه في مقارنة ظالمة مع معمر القذافي، ربما هو زئبق العاطفة الذي تحدثنا عنه في بداية الموضوع، أو ربما كان المديح من قبيل المجاملة لرئيس دولة عربية تحتضن مهرجاناً كبيراً للتراث الشعبي.
ومن الأمثلة الغريبة في مدائح الشعراء العاميين في الخليج للساسة العرب، ماقاله رئيس تحرير مجلة "شعبية" الشاعر هاني الظاهري في مدح السياسي اللبناني المتديّن "حسن نصرالله" عندما كان يقدم الجنوب اللبناني كبش فداء للقضية الإيرانية، وعلى الرغم من أن المجتمع الخليجي كان "شبه مجمع" على أن حسن نصر الله نقل المعركة من طهران إلى لبنان، إلاّ أن هاني الظاهري أصرّ على أن يبحر بقوافيه عكس التيار، في شجاعة أدبية تحسب لصالحه إن كان مؤمناً بقوله:
ارم لا شُلت يمينك يا حسن نصر الله
أشهد إنك نصر ٍٍ لربك وحزبك غالبين
يوم كلٍ هز سيفه بالحديث وسلّه
وحدك اللي دكت أفعالك حصون السافلين
هذا ماقاله هاني الظاهري وما نعتقد أنه يعتقده الحق، أما نحن فلا نراها إلاّ واحدةً من اثنتين، انتهازية ضوء أوعاطفة زئبقية في أفضل الأحوال.