المتشائمون عبر التاريخ .. «شوبنهاور» رهينا للمحبسين

المتشائمون عبر التاريخ .. «شوبنهاور» رهينا للمحبسين
المتشائمون عبر التاريخ .. «شوبنهاور» رهينا للمحبسين

تاريخيا يعود مفهوم التشاؤم بالمعنى الفلسفي إلى بداية القرن التاسع عشر مع الشاعر والفيلسوف الإنجليزي كولوردج (S.T Coleridge)، في معنى أسوأ الحالات الممكنة في الوجود. في ذات الحقبة علت أصوات شعراء متشائمين في مقدمتهم البريطاني اللورد بايرون (Byron)، والفرنسي ألفرد دي موسيه (Alfred de Musset) وغيرهم كثير ممن تتوافق نظرتهم إلى الحياة، وتتقاطع في اعتقادهم بأن مجموع الشرور في العالم يفوق مجموع ما فيه من خير.

غير أن مذهب التشاؤمية لن تقوم له قائمة -في الفكر الأوروبي- إلا مع الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور (Arthur Schopenhauer) الذي وصف بفيلسوف التشاؤم الأكبر، وكان مضرب المثل في التشاؤم إلى حد وسمه بأكبر متشائم في التاريخ.

نذكر هنا إحدى أبرز المقولات التي خلدها في مذهبه هذا حين قال: "إن الألم يدعو إلى الفناء، ويهيب بالذهاب، وترك الحياة، ويدعو المرء إلى الخلاص من إرادة الحياة والقضاء عليها؛ لأنها مصدر كل شقاء، وينبوع كل داء بينما السرور حليف الأبدية".

#2#

وازداد مذهب التشاؤمية انتشارا مع تلميذه النجيب الفيلسوف فريديك نيتشه (Friedrich Nietzsche) صاحب أقوى مقولة تشاؤمية في تاريخ الفلسفة الحديثة: "لجميع هؤلاء الذين أهتم لأمرهم، أتمنى لكم المعاناة والكآبة والمرض، سوء المعاملة والإهانات، احتقار الذات وعذاب عدم الثقة بالنفس وانكسار الهزيمة، ولن أحمل لكم الشفقة، لأنني أتمنى أن تثبتوا بذلك هل يستحق أحدكم أن يحصل على ما يريد في هذه الحياة أم لا، وهذا الشخص فقط سيتحمل المعاناة".

لكننا نجد بعض القراءات النقدية الحديثة، تعيد النظر في كهذا أحكام وتصنيفات، وترى أن ذاك الفيلسوف كان ضحية سوء فهم لمواقفه وأرائه؛ ففلسفة شوبنهاور في نظر هؤلاء، وفي مقدمته الفيلسوف الفرنسي لوك فيري (Luc Ferry)، لم تكن ذات نفس إطلاقي في التشاؤم بل هو تشاؤم ميتافيزيقي فقط، ولا علاقة له بالمزاج الخاص، بصيغة أخرى إنه إذن موقف معرفي من العالم.

أي أن هذا العالم، عالم لا يحتوي معنى يستحق العيش، وأن إرادة النفس التي توجه الإنسان وتحركه قد تكون إرادة عمياء بلا منطق، عالم مملوء بالشرور والآلام. باختصار يمكن القول إن شوبنهاور فيلسوف متفائل من رحم التشاؤم.

تقدير سليم إلى حد كبير، إذ لا يمكن مقارنة رؤية هذا الفيلسوف الألماني بآراء ومواقف شعراء عرب بصموا في التاريخ، ولن نكون مبالغين إذا قلنا إنهم مؤسسو التشاؤمية الأوائل. يأتي في مقدمة هؤلاء الشاعر الكبير أبو العلاء المعري المعروف بشعر الدهريات؛ وهو شعر وجداني مرتبط بمكنون النفس وآلامها ومعاناتها. وهو كذلك شعر صادق نابع من نبض فؤاد واضطراب جوانح الشاعر، يكشف فيه عن كثير من الدلالات النفسية والاجتماعية والسياسية لعصره، ويلقي الضوء على الواقع الذي عاشته أمة الإسلام حينا من الدهر.

تمثيلا لا حصرا ننتخب هذين البيتين من ديوان اللزوميات تبيانا لمنسوب التشاؤم لدى أبي العلاء من الواقع السياسي والاجتماعي المحيط به: "يسوسون الأمور بغير عقل/ فينفذ أمرهم فيقال ساسه، فأف من الزمان وأف مني/ ومن زمن رئاسته خساسه".

ليس رهين المحبسين وحيدا في مذهبه هذا بل نجد بمعيته ثلة من الشعراء الأنداد ممن يحفل بهم تاريخ الشعر العربي، من زمرتهم ابن الرومي وأبو العتاهية.. وآخرون. لكن المشكلة التي حتمت التنكر لأفكار هؤلاء وحجب ذكرهم في التأسيس لهذا المذهب، أنهم لم يكونوا من سليل الحضارة الأوروبية حتى يعترف بهم وبأفكارهم وأرائهم ومواقفهم ورؤيتهم للحياة.

طبعا، ليس هؤلاء وحدهم ضحية المركزية الأوروبية بل أوروبيون من بني جلدتهم لم ينصفهم التاريخ، لا لشيء إلا أنهم لم يصادفوا حقبة التأسيس والتصنيفات (فترة تأسيس المدارس) في الأدب والشعر والفلسفة... وهلم جرا. فهل يجوز مثلا أن نقارن تشاؤمية شوبنهاور بتشاؤمية الفيلسوف الروماني إميل سيوران (Emil Cioran) الذي قال: "إذا حزنت مرة دون سبب، فثق بأنك كنت حزينا طيلة حياتك دون أن تعرف". ذاك الرجل الذي كان يكتب من أجل تأجيل انتحاره؛ فالكتابة هي السبيل الوحيد الأوحد عنده كي يرضى عن نفسه.

كاتب لم يكن التشاؤم عنده رهين الرؤى الميتافيزيقة كما عند شوبنهاور بل ممارسة حياتية، إذ اختار الانزواء بعيدا مقاطعا الجميع، رافضا في الوقت ذاته كل الجوائز التي قدمت له. ومن الأقوال التي اشتهر عنه: "كل الوجوه تقلقني"، "كل زيارة هي اعتداء"، "ملعون من يدق الباب"... "لا أعرف أحدا".

وقس عليه أسماء أخرى، قررت أن تعيش حياة تشاؤمية من طينة الشاعر الإيطالي الموهوب جاكومو ليوباردي (Giacomo Leopardi) الذي بدأت كتابة الشعر في سن الخامسة عشرة من عمره، وتوفي عن سن يناهز 39 سنة، من أشهر مؤلفاته كتابي "المحاورات" و"الأغاني"، ومن أشهر أقواله: "إن السعادة هي وهم ولا يمكن الوصول إليها وإدراكها، ولا يوجد شيء في العالم يمكن تغير الشقاء والبؤس".

نذكر من ضمن هذه الأسماء كذلك الكاتب التشيكي فرانز كافكا (Franz Kafka) صاحب المذهب النباتي في العيش الذي يشمئز من أكل لحوم الحيوانات، وهو أيضا صاحب مقولة تشاؤمية حادة تكشف عن سوداوية الحياة عنده: "لا يزال الليل ليلا أكثر من اللازم".

لم يختف المتشائمون في مسار التاريخ على الإطلاق، فمن حين لآخر يظهر ناطق جديد باسمهم ومعبر آخر عن أفكارهم، هذا ما ينطبق – في وقتنا الراهن - على الكاتب الأمريكي الشاب إيريك جي. ويلسون (Eric G.Wilson) صاحب كتاب "ضد السعادة" (2008) الذي لم يدخر فيه جهدا لحشد الدلائل لثني قرائه عن التفكير في أي معنى للتفاؤل (الأزمات البيئية، الحروب، التسلح، الأمراض، مشاكل المجتمع، العنف...). يدرك الرجل جيدا أنه يعيش في بلد (الولايات المتحدة الأمريكية) تحول فيه البحث عن السعادة إلى هوس، لكنه مؤمن يقينا أن كل السبل منقطعة عنده لاعتناق أي نوع من السعادة.

قد تتساءل أيها القارئ عن دعوى التكلف والكتابة لإعداد هذه الجولة في رحاب مذهب المتشائمين في وقت الراهن الذي تتجه فيه كل المؤشرات إلى تشاؤمية قل نظيرها في تاريخ البشرية، ليكون الجواب عندي أن اعتماد المقارنة بين "عصر الكهوف" و"عصر الأنوار" نخلص إلى أن الكهوف أدت إلى صناعة التاريخ، وأن الصالونات أدت إلى ابتكار المقصلة.

الأكثر قراءة