الدول الصغيرة تقلب الموازين وتحتل المراتب المتقدمة عالميا

الدول الصغيرة تقلب الموازين وتحتل المراتب المتقدمة عالميا

في الترتيب تأتي سويسرا قبل فنلندا أو السويد والدنمارك وسنغافورة. هكذا تبدو قائمة الترتيب لأقوى دول في المنافسة من حيث الاقتصاد القومي التي أصدرها منتدى الاقتصاد العالمي لعام 2006. وبعد هذه الدول يأتي في المراكز التالية الأوزان الثقيلة في الاقتصاد العالمي: الولايات المتحدة، اليابان، وألمانيـا. وإذا قارن المرء دخل الفرد أو النقاط في "مؤشر التطور البشري" للأمم المتحدة، تظهر الصورة نفسها، فمع لوكسمبورج، النرويج، وأيسلندا تحتل الدول الصغيرة مرة أخرى المراتب المتقدمة. وإذا تمت دراسة مستوى المعيشة، ونسب الوفاة والراحة النفسية، تبرز الدول الصغيرة بنتائج أفضل من الكبيرة، فيما تمثل الولايات المتحدة الأمريكية الحالة الاستثنائية المشهورة في هذه القاعدة.
والآن يستطيع المرء أن يقول الكثير من النقد عن لائحة الترتيب لكل دولة على حدة. وتبين دراسات تحليلية أكثر حداثة، أن هناك سمات عديدة غائبة في هذه الدراسات: الراتب التشخيصي، التأثير العلاجي والقدرة المتوقعة. ولكن بالرغم من كل النقد يصبح واضحا أن الدول الصغيرة في المقارنة العالمية تقف موقفا أكثر نجاحا بالمقارنة بالدول الكبيرة. بل أكثر أيضا من ذلك، فمن الظاهر أن ميزات الصغر ازدادت خلال العقود الأخيرة.
وهكذا نشأت في أوروبا منذ عام 1989، 13 دولة جديدة، وفي الواقع بسبب سقوط الاتحاد السوفياتي العملاق وكذلك بسبب سقوط دول أوروبا الشرقية، يوغسلافيا، وتشيكوسلوفاكيا، حتى أن الكتاب "قارة الدول الصغيرة أوروبا" يتحدث عن نشوء 22 دولة صغيرة. ومن الظاهر أنه يوجد هناك نوع من التحلل الطبيعي يحدث للدول السياسية الكبيرة، يقوم هذا التحلل على أساس قوى طرد مركزية اقتصادية وسياسية في المقياس نفسه.
إذاً، ما سر نجاح الدول الصغيرة؟ والأهم من ذلك: لماذا أصبحت الدول الصغيرة خلال الأعوام الأخيرة جذابة بهذه الدرجة؟ الجواب موجود في نظرية الاقتصاد العالمي وتجارب العولمة.
من ناحية المنظور الاقتصادي، تضاءلت المسافات خلال النصف الثاني من القرن الماضي. والسبب في هذا كانت اختراعات في مجال المرور والمواصلات والاتصالات، على سبيل المثال سفن شحن حاويات ضخمة والإنترنت. ولكن السياسة لعبت أيضا دورا مساهمـا في إطار منظمة التجارة العالمية وخليفتها اتفاقية الجات، وهي اختصار لكلمة الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة قامت الدول بهدم عوائق التجارة. إضافة إلى ذلك خلقت الدول سوقا أوروبية داخلية بلا حدود، فالمواد الخام، والتسهيلات المسبقة والمنتجات النهائية يمكن الآن نقلها إلى مسافات أبعد وتداولها بأسعار أرخص. كما أصبحت الخدمات المثقلة للرأس أكثر سهولة في الإنجاز في مواقع أخرى ومن ثم إرسالها عبر الإنترنت خلال ثوان قليلة إلى الزبون في مكان آخر في العالم. كما ازداد خلال العشرين عاما الماضية عدد الأنشطة الاقتصادية التي استطاعت أن تتجاوز الأزمات في الأسواق العالمية. وارتفع كذلك تقسيم العمل والتخصص على مستوى العالم بصورة ملموسة جدا. لقد أصبحت السوق العالمية مقياسا يملي الأسعار وكذلك التكاليف.
واستفادت الدول الصغيرة بقدر خاص من العولمة وانفتاح الأسواق العالمية، فلغاية هذه اللحظة كانت الأسواق الداخلية تمثل في العادة ميزة سلبية، وأما الآن فقد أصبح في مقدور الدول الصغيرة أن تنشط خارج نطاق حدودها، فالنجاح الاقتصادي لم يعد يرتبط بالحجم الوطني.
إن دولا مثل سنغافورة، سويسرا، هونج كونج، ولوكسمبورج، استغلت الفرص المتاحة، فقدمت نفسها كمحطة مستديرة للتبادل التجاري العالمي للسلع والخدمات والرساميل، وألغت قوانين في الأسواق وجعلتها أكثر مرونة، كما استطاعت أن تلائم سرعتها في السياسة والقانون مع سرعتها في العولمة والتغير الهيكلي.
وهكذا أضحت تلك الدول مهمة للشركات والمستثمرين من جميع أنحاء العالم، ولكن أيضا للناس الذين يريدون أن يعيشوا في سلام وحرية ويريدون كذلك أن يعملوا. ولم يعد حجم الاقتصاد القومي هو الذي يحدد النجاح للمنافسة العالمية حول الموقع، بل أصبحت الجاذبية هي العامل المهم.
والإنجازات الناجحة للدول الصغيرة توضح أن السياسة لم تعد تلعب دورا صغيرا في عصر يشهد موجة العولمة، بل أصبحت أكثر جوهرية وأهمية. فالمؤسسات والأشخاص يستطيعون الآن إنجاز الأنشطة المختلفة في أي مكان ولأي شخص.
وإذا أصبح في الإمكان تنقل الناس ورأس المال والمصانع بأكملها بكل سهولة، حينها سيكون نجاح الدول مرتبطا بشدة بالسياسة. فالسياسة الجيدة تلقى مكافأتها بتوافد الهجرة إلى الدولة، ومكافأتها السيئة هي الهجرة من الدولة إلى دول أخرى. وعلى هذا تستغل الدول الصغيرة ميزتها، فهي تستطيع أن تتفاعل مع التغيرات السياسية والتكنولوجية بسرعة أكبر من الدول الكبيرة. لأنه في الجماعات الصغيرة يتم التوصل بسرعة إلى اتفاق في الرأي حول حلول جديدة. وهكذا تظهر إعادة تقسيم للفائزين من العولمة إلى الخاسرين، أضف إلى ذلك أن الضغط الاجتماعي أكبر، فالمرء يعرف نفسه ويسيطر عليهـا.
لا عجب إذن أن العولمة في نيوزيلندا والدول الإسكندنافية والنمسا أدت إلى إصلاحات سياسية على خلاف فرنسا، إيطاليا، وألمانيا، فيما تعد الولايات المتحدة وبريطانيا أمثلة على أن التغيرات قد تكون محتملة أيضا في الدول الكبيرة.
وماذا يترتب من ذلك على ألمانيـا؟ الكلمة السحرية هي الفيدرالية: على دولة كبيرة أن تقسم نفسها إلى وحدات اقتصادية صغيرة تستطيع بدورها أن تطبق بسرعة حلولا غير مركزية مثل الدول الصغيرة. وهذا يعني بالنسبة لألمانيا أن الأقاليم بحاجة إلى استقلالية أكبر، وبالأخص لماليتها. ألمانيا تحتاج إلى تحفيز، بحيث يستطيع كل إقليم اتحادي وكل منطقة تجمعات مدنية أن يتودد وحده إلى المؤسسات ودافعي الضرائب من جميع أنحاء العالم، بعلاقة جيدة "للسعر مقابل الجودة" ما بين الضرائب وما تقدمه في المقابل، ألا وهو العروض العامة.
وفيدرالية المنافسة الفعلية قد تكافئ السياسة الاقتصادية الإقليمية الجيدة وتعاقب السيئة، وحينها لا يمكن أبدا في ألمانيا ضمان المستوى نفسه من ظروف المعيشة في كل مكان. ولكن ألن يكون أفضل لو أن ألمانيا جُعلت ناجحة، حالها كحال الدول الصغيرة؟

الأكثر قراءة