مختصون: البيعة لولي الأمر حصن منيع للبلاد والعباد ضد كيد الكائدين
أجمع عدد من أهل العلم على حق البيعة لولي الأمر وأنها واجبة على كل منتم لهذا البلد الإسلامي المبارك الذي يضم الحرمين الشريفين وفيها قبلة جميع المسلمين وإمام المسلمين فيها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، وحددوا مفهوم البيعة وما يجب أن تكون عليه، وتناولوا في عرض حديثهم المكانة التي وصلت إليها البيعة في الإسلام وأنها تمثل أهمية كبيرة أسهمت في بقاء الأمة الإسلامية وسيادتها التاريخية، وأشاروا إلى أنه لا يجوز لكائن من كان أن يخرج على ولي الأمر مادام أنه يقوم بواجبه تجاه دينه ودنياه، وإن الاستثناء فيها أن يظهر من الإمام الكفر البواح, وهذا غير موجود لدينا في هذه البلاد، وقدموا نصيحتهم للمغرر بهم بأن يعودوا إلى رشدهم وأن يسلكوا طريق الحق. وقد شارك في الندوة كل من الشيخ الدكتور صالح بن إبراهيم آل الشيخ رئيس المحكمة الجزئية, والدكتور صالح العصيمي عضو الجمعية السعودية في علوم العقيدة الأديان والمذاهب والفرق، الأكاديمي والدكتور عبد الله الجار الله والشيخ محمد السهلي.
مفهوم البيعة في اللغة والاصطلاح
في البداية تحدث الشيخ الدكتور صالح بن إبراهيم آل الشيخ رئيس المحكمة الجزئية في الرياض عن مفهوم البيعة في الاصطلاح واللغة فقال: إن البيعة في اللغة كما جاء في لسان العرب لابن منظور: "والبيعة: الصفقة على إيجاب البيع، وعلى المبايعة والطاعة، والبيعة: المبايعة والطاعة. وقد تبايعوا على الأمر: كقولك: أصفقوا عليه، وبايعه عليه مبايعة: عاهده، وبايعته من البيع والبيعة جميعاً، والتبايع مثله، هو عبارة عن المعاقدة والمعاهدة، كأن كل واحد منهما باع ما عنده من صاحبه وأعطاه خالصة نفسه وطاعته ودخيلة أمره" لسان العرب 8/26، وأما مفهومها في الاصطلاح: هي إعطاء المبايع عهده على السمع والطاعة في غير معصية، وفي المنشط والمكره والعسر واليسر وتفويض الأمر إليه بلا نزاع. وقد سمي العهد مبايعة، لأن المتعاهدين يضع كل منهما يده في يد الآخر عند المعاهدة تأكيداً لها، فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري.
والإمامة ضرورة ولا سيما أن الإنسان مدني بطبعه، وذلك لعجزه عن الوفاء بحاجاته الضرورية من غذاء وحماية منفرداً، كما أنه ميال لإشباع غريزته بالفطرة، ولو كان ذلك بالبغي والعدوان، ولو ترك الإنسان لغرائزه لساد قانون الغاب، وحل الخراب، لذا وجب أن يعيش الناس في جماعات، وأن يكون لهم أعراف وقوانين تميز بين الخير والشر والعدل والظلم، وتنظم الحقوق والواجبات، وترتب العواقب على الأعمال والتصرفات، إلا أن هذا أيضاً غير كاف ما لم يعملوا على إيجاد السلطة التي يتحكمون إليها عند الخلاف والمنازعات، ومن هنا وجب أن يكون للناس إمام أياً كان براً أو فاجراً. قال الشاعر:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم.. ولا سراة إذا جهالهم سادوا وعلى ذلك يرى أهل السنة أن نصب الإمام واجب شرعي لتنظيم حياة الناس والمحافظة على الكليات الخمس، وهي الدين والنفس والعقل والمال والنسل، وقد عقدوا لذلك بابا في كتب العقائد. و يعد جماهير المسلمين سلطة الإمام ضرورة اجتماعية وأداة من أدوات الأمة في إقامة العدل وحراسة الدين وسياسة الدنيا، كما يعد القائمون على السلطة- من الإمام ومعاونيه- في خدمة الأمة، يحترمون إرادتها، ويعملون بمشورتها.
أبرز بيعة
من جهته تناول الدكتور عثمان بن جمعة عثمان ضميرية عضو هيئة التدريس في جامعة أم القرى أبرز بيعة في الإسلام وهي بيعة الرضوان فقال إن مبايعة المسلمين للرسول صلى الله عليه وسلم، إنما هي مبايعة لله تبارك وتعالى, وذلك كما في قوله سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [الفتح: 10]. والمراد بالمبايعة في الآية بيعة الرضوان في الحديبية. وفي صحيح مسلم (1856)، عن جابر، رضي الله عنه، قال: كنا يوم الحديبية ألفًا وأربعمائة, فبايعناه، وعمر آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة. وقال: بايعناه على ألا نفر, ولم نبايعه على الموت. وفي بيعة العقبة الأولى بايع المسلمون الرسول صلى الله عليه وسلم، على بيعة النساء قبل أن تفرض عليهم الحرب. صحيح البخاري (18) وصحيح مسلم (1709).
إعطاء العهد
ويرى الشيخ الدكتور صالح العصيمي أن مفهوم البيعة في الإسلام: هو انعقاد الحكم للحاكم المسلم ليكون مسؤولا عن أهل زمانه، حيث اتفق العلماء على وجوب نصب الإمام.
قال الإمام ابن حزم: اتفق جميع أهل السنة على أن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيهم أحكام الله. انظر كلامه في الفصل (4/87)
قال الله تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ" النساء 59. قال الإمام الطبري: هم الأمراء والولاة في ما كان لله طاعة وللمسلمين مصلحة. تفسير الطبري (7/502). وذكر ابن كثير عند تفسيرها: هم العلماء والأمراء. وقال صلى الله عليه وسلم: "من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية". رواه مسلم (1851)، وهذا الحديث واضح الدلالة على وجوب مبايعة الإمام. وقال الإمام النووي: أجمع العلماء على أنه يجب على المسلمين نصب خليفة. [شرح النووي (12/205)]، فالبيعة لخليفة المسلمين أمر معلوم من الدين بالضرورة، وعدم نصب خليفة أو حاكم مسلم سيورث الإضرار والفوضى. والخلاصة أن مفهوم البيعة هي إعطاء العهد من المبايع على السمع والطاعة للحاكم في غير معصية في المنشط والمكره والعسر واليسر، وعدم منازعته الأمر، وتفويض الأمور إليه.
البيعة بين الحاكم والمحكوم
ويذهب الدكتور عبد الله الجار الله أستاذ القراءات إلى أن البيعة مصطلح إسلامي وهذه البيعة خصيصة لهذه الأمة، وميزة بطابعها الإسلامي عن سائر النظم، لأنها نظام إلهي عظيم والبيعة ديانة لرب العالمين، وأمانة لولي الأمر, والبيعة عهد بين الحاكم والرعية وهي: عقد من طرفين بين الحاكم والمحكوم، والمَُبَايع والمُبـايِع. وهي عقد وكالة بين أفراد الأمة وولي الأمر. وهذه الوكالة هي قيام ولي الأمر بما فيه صلاح الناس في دينهم بالمحافظة على إقامة الحدود، وإقامة العدل وتحقيق السلام، وفي دنياهم بالمحافظة على ما يصلحهم في معاشهم، وحماية البلاد من كيد الكائدين، وشر الأشرار في الداخل والخارج، ونشر الأمان والاطمئنان والعيش الرغيد. عهد بالتزام الحاكم في إقامة الدين وتطبيقه، وسياسة الدولة، وعهد بالتزام الرعية بالسمع والطاعة، ولكل من الطرفين واجبات وحقوق كفلتها الشريعة، فهي إعطاء العهد من المبايع على السمع والطاعة للإمام في غير معصية، في المنشط والمكره والعسر واليسر وعدم منازعته الأمر وتفويض الأمور إليه.
قال ابن خلدون في مقدمته: "اعلم أن البيعة هي العهد على الطاعة، كأن المبايع يعاهد أميره على أن يسلم له النظر في أمور نفسه وأمور المسلمين، لا ينازعه في شيء من ذلك، ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره، وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيدا للعهد، فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري، فسمي بيعة مصدر باع، وصارت البيعة مصافحة بالأيدي، هذا مدلولها في عرف اللغة ومعهود الشرع وهو المراد في الحديث في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة وعند الشجرة.
أدلة وجوب بيعة الناس للإمام
ويتناول الشيخ الدكتور صالح آل الشيخ أدلة وجوب بيعة الناس للإمام فيقول: لقد تضافرت الأدلة على وجوب أن يبايع الناس إماماً لهم، يدخلون في طاعته لتتحقق المقاصد الشرعية وتنتظم أمور الجماعة المسلمة، فعن معاوية رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» المعجم الكبير للطبراني 19/334 وأخرج الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي في مسنديهما وابن حبان في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية" وفي رواية "من مات وليس عليه إمام مات ميتة جاهلية" وفي رواية "من مات وليس عليه طاعة مات ميتة جاهلية" رواه الطبراني.
فهذه الأحاديث ناطقة بأصرح بيان بضرورة أن يكون للناس إمام، وأنه يجب عليهم أن يبايعوه، ويطيعوه، وإلا كانوا كأهل الجاهلية في تركهم الأمور فوضى، كما أن في الإشارة إلى الميتة الجاهلية وعيداً شديداً لكل من تسول له نفسه أن يمتنع من مبايعة الإمام، أو يشق عصا الطاعة.
وفي وجوب الوفاء بالبيعة يقول الدكتور صالح آل الشيخ: إن آيات الكتاب الحكيم شاهدة على وجوب أن يفي المسلم بما قطعه على نفسه من عهود، أو تعاقد عليه من عقود، قال الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود" المائدة 1. وقال تعالى "وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلون" النحل 91. و قال تعالى: "وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا" الإسراء 34. كما أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم أكدت ذلك أيما تأكيد، وتنوعت فيها أساليب الوعيد لبيان عظم إثم من لم يف بالبيعة، لما في انخرام الوفاء بها من خطورة على مصالح المسلمين في دينهم ودنياهم، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم "من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له" رواه مسلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم "من بايع إماماً، فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه، فاضربوا عنق الآخر» رواه أبو داود. وقوله صلى الله عليه وسلم" من رأى من أميره شيئاً يكرهه، فليصبر عليه، فإن من فارق الجماعة شبراً، فمات إلا مات ميتة جاهلية". والبيهقي في السنن الكبرى. وقوله "من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه". أخرجه الحاكم في المستدرك. وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعظمون أمر البيعة ويحذرون من نكثها، فهذا عبد الله بن عمر، لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع حشمه وولده، فقال: بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وإني لا أعلم غدراً أعظم من أن يبايع رجل على كتاب الله وسنة رسوله، ثم ينصب له القتال، وإني لا أعلم أحداً منكم خلعه، ولا تابع في الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه" أخرجه البخاري.
شروط صحة البيعة
ويحدد الدكتور العصيمي شرطين لصحة البيعة: الأول:أن يشترط في المبايع أن يكون مسلمًا بالغًا عاقلاً حرًا ذكرًا، ذا رأي متين، وبصيرا في الحوادث مع توفر العدالة والكفاءة في كافة صورها، أما الثاني: فأن تكون مبايعته إما عن طريق الاختيار من أهل الحل والعقد أو عن طريق الاستخلاف من الخليفة السابق كحال الصديق والفاروق رضي الله عنهما.
وفي السياق ذاته يعتبر الشيخ محمد السهلي أن شروط صحة البيعة تكون أن يبايع المسلمون ولي أمرهم على السمع والطاعة على أن يقيم شرع الله فيهم بما يصلح معايشهم في العاجل والآجل. قال ابن عبد البر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبايع الناس على حدود الإسلام، ومعنى ذلك أنه كان يبايعهم على شروط الإسلام ومعالمه. [التمهيد لابن عبد البر 12/224].
نكث البيعة وعقوبتها في الشرع
ويعتبر الدكتور الجار الله أن أهمية الوفاء بالبيعة من الواجبات المحتمة على كل مسلم للحاجة الماسة إلى هذا الأمر العظيم من البيعة ونصب الإمام الشرعي في الأمة، ولنتأمل فعل الصحابة رضي الله عنهم في إجماعهم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم على نصب الإمام قبل الاشتغال بدفنه صلى الله عليه وسلم, فقد أخروا لأجل مبايعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه من أعظم المهمات والأعمال ومنها الاشتغال بجنازته صلى الله عليه وسلم، فما دفن صلى الله عليه وسلم إلا بعد مبايعة أبي بكر رضي الله عنه!!
لما علموا من وجوب المبادرة إلى بيعة إمام عليهم، لما فيه من معاني القوة والجماعة والتآلف، وقد فرض الشرع المطهر على المسلم الوفاء بالعهد، سواء كان ذلك بين المسلمين بعضهم وبعض، أم مع غير المسلمين من أهل الكتاب، بل وكذلك مع الكافر إذا استقام فقد قال تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ" "وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً"، وقال "فما اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ"، والبيعة بما أنها عقد وعهد بين المسلمين وخليفتهم فإنها داخلة في هذه الآيات. وحكم من نكث البيعة على النصرة أو الجهاد أو السمع والطاعة دون أن يصدر عنه ما ينافي أصل الإيمان فهو عاص مرتكب لكبيرة من أعظم الكبائر، لأنها نقض للعهد, وقد وردت فيها أحاديث كثيرة تحرم نكثها أشهرها ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال"من بايع إماما فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع" (رواه مسلم ).
ونقض البيعة غدر لقوله صلى الله عليه وسلم: لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدرته، ألا و لا غادرَ أعظم غدرا من أمير عامة ] رواه مسلم، وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يحذر أهل بيته وولده من الغدر ونكث بيعتهم للسلطان لا لشيء إلا لأن ليزيد بن معاوية بيعة في عنقهم. لما خلع أهلُ المدينة يزيدَ بن معاوية، جمع ابنُ عمر حشمَه وولدَه
فقال: "إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول (يُنْصَبُ لكل غادر لواءٌ يومَ القيامة وإنا قد بايعْنا هذا الرَّجلَ على بيع الله ورسوله، وإني لا أعلمُ غدراً أعظم من أن يبايَع رجلٌ على بيع الله ورسوله ثم يُنْصَبُ له القتالُ، وإني لا أعلمُ أحداً منكم خَلَعَه ولا بايع في هذا الأمر إلا كانت الفيصلَ بيني وبينه) رواه البخاري في صحيحه في كتاب الفتن. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله " وفي هذا الحديث وجوب طاعة الإمام الذي انعقدت له البيعة والمنع من الخروج عليه، ولو جار في حكمه، وأنه لا ينخلع بالفسق". وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما في حديثه الطويل يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر) رواه مسلم.
وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى في الأمراء:
هم يَلُون من أمورنا خمساً: الجمعة، والجماعة، والعيد، والثغور، والحدود، والله لا يستقيم الدين إلا بهم، وإن جاروا وظلموا، والله لما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون، مع أن طاعتهم، والله لغبطة وأن فرقتهم لكفر.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في كتاب السياسة الشرعية يجب أن يعرف أن ولاية الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم، رواه أبو داود، من حديث أبي سعيد وأبي هريرة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله" فطاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد، وطاعة ولاة الأمور واجبة ؛ لأمر الله بطاعتهم، فمن أطاع الله ورسوله بطاعة ولاة الأمر لله فأجره على الله، ومن كان لا يطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية والمال فإن أعطوه أطاعهم وإن منعوه عصاهم، فما له في الآخرة من خلاق ويقال "ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة بلا سلطان.
قال الحافظ ابن رجب ـ رحمه الله تعالى ـ في جامع العلوم الحكم "أما السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين، ففيها سعادة الدنيا، وبها تنتظم مصالح العباد في معايشهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم، وطاعة ربهم"، ولا يجوز نقض البيعة دون سبب؛ لأنها من الواجبات، والإنسان له الحق في أن يتنازل عن حقوقه؛ لكن ليس له الحق في التفريط في واجباته.
ولذلك صح عنه عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله, رضي الله عنه, (أن أعرابيًا بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فأصاب الأعرابي وعك بالمدينة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أقلني بيعتي. فأبى، ثم جاءه فقال: أقلني بيعتي. فأبى، فخرج الأعرابي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها" [رواه البخاري ومسلم].
ولذلك علل ابن حجر في الفتح بقوله: امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من إقالته؛ لأنه لا يعين على معصية، فاعتبر عليه الصلاة والسلام ترك البيعة معصية.
السمع والطاعة
ويشدد الدكتور صالح آل الشيخ على حرمة نكث البيعة وإن نكثها على النصرة والجهاد، أو على السمع والطاعة يعتبر كبيرة من كبائر الذنوب، ما لم يصدر من المبايع ما ينافي أصل الإيمان، لأن ذلك نقض للعهد، وقد توعد الله سبحانه من نقض العهد، فقال تعالى: (فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً} الفتح. وقال سبحانه: "وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون" (البقرة 26). وقال تعالى "ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً" النحل 91. وفي صحيح مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنه يستعمل عليكم أمراء، فتعرفون وتنكرون فمن كره، فقد برئ ومن أنكر فقد سلم ولكن من رضي وتابع" قالوا: يا رسول الله ألا نقاتلهم؟ قال "لا ما صلوا.. صحيح مسلم، وفي البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم سترون بعدي أثرة وأموراً تنكرونها" قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال "تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم" رواه البخاري. فهذه الأحاديث قاضية بحرمة نكث البيعة والخروج على طاعة الحاكم بأي شكل من أشكال الخروج. قال الآجري رحمه الله "وقد ذكرت من التحذير عن مذاهب الخوارج ما فيه بلاغ لمن عصمه الله عز وجل عن مذهب الخوارج، ولم ير رأيهم وصبر على جور الأئمة، وحيف الأمراء ولم يخرج عليهم بسيفه وسأل الله العظيم كشف الظلم عنه وعن جميع المسلمين، ودعا للولاة بالصلاح، وحج معهم وجاهد معهم كل عدو للمسلمين، وصلى خلفهم الجمعة والعيدين، وإن أمروه بطاعة، فأمكنته طاعتهم أطاعهم، ولمن لم يمكنه اعتذر إليهم، وإن أمروه بمعصية لم يطعهم، وإذا دارت بينهم الفتن لزم بيته، وكف لسانه ويده ولم يهو ما هم فيه، ولم يعن على فتنة، فمن كان هذا وصفه كان على الطريق المستقيم إن شاء الله تعالى" الشريعة للآجري. وبمثل هذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في منهاج السنة "المشهور من مذهب أهل السنة أنهم لا يرون الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف وإن كان فيهم ظلم، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الفساد في القتال والفتنة أعظم من الفساد الحاصل بظلمهم دون قتال ولا فتنة، فيدع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، ولعله لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلاّ كان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته" منهاج السنة النبوية.
لا يجوز الخروج على الأئمة
ويتفق الدكتور العصيمي مع الشيخ السهلي على حرمة نكث البيعة والخروج على الأئمة وإنه لا يجوز لمسلم أن ينقضها ويخرج على ولي أمر المسلمين أو الأمام ولو كان ظالما، وهذا قول علماء السنة، حيث ذهبوا إلى أنه لا يجوز الخروج على الأئمة ولو كانوا من أئمة الظلم والجور.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "كان مذهب أهل الحديث ترك الخروج بالقتال على الملوك البغاة والصبر على ظلمهم إلى أن يستريح برًا ويستراح من فاجر. [الفتاوى (4/444)]، بل نقل النووي الإجماع في ذلك، كما في شرحه لصحيح مسلم (12/229)] وفي نقله نظر، بل قال شيخ الإسلام (لا يعرف عن طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته) [منهاج السنة (1/391)]
قال صلى الله عليه وسلم "من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له" [رواه مسلم (1851)]
ويرى الشيخ السهلي أن حق البيعة من الواجبات، والإنسان له الحق في أن يتنازل عن حقوقه؛ لكن ليس له الحق في التفريط في واجباته.
ولذلك صح عنه عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله, رضي الله عنه (أن أعرابيًا بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فأصاب الأعرابي وعك بالمدينة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أقلني بيعتي. فأبى، ثم جاءه فقال: أقلني بيعتي. فأبى، فخرج الأعرابي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها" [رواه البخاري ومسلم].
ولذلك علل ابن حجر في الفتح بقوله: امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من إقالته، لأنه لا يعين على معصية.
فاعتبر عليه الصلاة والسلام ترك البيعة معصية. وفي السياق ذاته يستشهد الدكتور الجار الله بكلام مفتي المملكة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ في حكم الخروج على الإمام الذي قال فيه "وأما تحريم الخروج على ولي الأمر فظاهر جدا فإن الله أمر بطاعته في قوله سبحانه "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" ويقول النبي صلى الله عليه وسلم "من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فانه من فارق الجماعة شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية "أخرجه البخاري ومسلم. وأما خفر الذمم ونقض العهود فإن الله تعالى يقول " يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود". ويقول صلى الله عليه وسلم" المسلمون تتكافأ دماؤهم يسعى بذمتهم أدناهم ويجير عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم" أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه. قال البغوي في شرح السنة يسعى بذمتهم أدناهم أي أن واحدا من المسلمين, إذا أمن كافرا حرم على عامة المسلمين دمه وإن كان هذا المجير أدناهم قيل أن يكون عبدا أو امرأة أو عينا تابعا أو نحو ذلك فلا يخفر ذمته. وكل ذلك تحقيقا للصدق الذي جاء به الإسلام والوفاء بالعهد وتحريم الغدر, فالإسلام ليس دين الغدر والخيانة بل تلك صفات أهل النفاق. وإذا كان هذا في أدنى المسلمين فكيف بذمة ولي الأمر وإذا كان الكافر قد دخل البلاد بأمان أو بما يعتقده هو أنه أمان وجب تأمينه وحرم الاعتداء عليه والغدر به. هذه بعض الأدلة التي تبين شناعة تلك الأفعال أوردناها مختصرة لقصد التحذير من تلك الفعال وإلا فنصوص الكتاب والسنة بحمد الله جاءت وافية شافية في هذا الباب. ثم إن من نظر إلى هذه الجرائم وما يترتب عليها من السعي في إخلال الأمن وترويع الناس واضطراب أحوالهم علم أن هذا ضرب من الحرابة والفساد التي حرمها الله أشد التحريم في قوله تعالى "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم".
ويقول تعالى "ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد". وهذه الأفعال المشينة مخالفة لكليات الشريعة أصرح مخالفة ففيها من المفاسد مالا يحصى ولا مصلحة ظاهرة منها, وفيها الاعتداء على المصالح العليا العامة لبلاد المسلمين, وفيها الاعتداء على جملة من الضرورات الخمس كالدين والنفس والمال, وفيها الظلم ظلم للنفس وظلم للغير بالاعتداء عليهم. وأيضا فإن هذه الفعال فيها مخالفة لإجماع من يعتد برأيه في هذا العصر وإجماع السلف على ما ذكرنا حكمه, وفيها مشاقة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم ومخالفة لأوامرهما وارتكاب لنواهيهما والله تعالى يقول" ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا.
عقوبة من يبايع غير ولي الأمر
وتمسك الشيخ السهلي بالرؤية الشرعية التي تحرم مبايعة من يأتي وأمر المسلمين مجتمع على إمام سابق، بل أمر عليه الصلاة والسلام بقتل المدعي الجديد درءًا للفتنة، كما جاء في الصحيحين من حديث عرفجة رضي الله عنه، أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من أتاكم وأمركم جميعا على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه". وفي السياق ذاته اعتبر الدكتور العصيمي عقوبة من يخرق البيعة أنه سيلقى الله عز وجل يوم القيامة ولا حجة له، بل سيموت ميتة جاهلية، بل وسيتحمل من خرج على الإمام إثم قتل الأبرياء، وإثم زعزعة الأمن وإثم فتح باب الفوضى، وإثم الصد عن سبيل الله، وإثم التضييق على الأعمال الخيرية والمناشط الدعوية في كل مكان، وإثم استغلال بعض المتربصين لهذه الأهداف الطيبة. أما مسألة هل يجوز أن يبايع لأكثر من شخص فقد ذهب جماهير أهل العلم بأنه لا يجوز تعدد الأئمة في زمن واحد ومكان واحد.
بيعة النساء: عود على بدء ويتناول الدكتور آل الشيخ جانبا مهما من جوانب البيعة وهو"بيعة النساء" وهذا الاصطلاح أدى إلى تفرقة معظم الكتابات بين بيعة النساء وبيعة الرجال، وتأسس هذا التمييز في نظر بعض الفقهاء على ثلاثة أسس:
أولا: الاختلاف في الكيفية، إذ لا يتطلب فيها المصافحة كما في بيعة الرجال، ثانيا: الاختلاف في الحدود، إذ لا تتعدى البيعة الطاعة في المعروف، ثالثا: الاختلاف في مساحة المسامحة، فإنه يتوسع في أمر بيعتهن ما لا يتوسع فيما سواها، فحيث يكون عدم الوفاء بها في الرجال انتقاصا في دين المرء وتعديا على حق من حقوق الله فهي في النساء غير حاملة لهذا. لكن التأمل في تلك الآراء الفقهية يدفعنا إلى التفرقة بين الأصول والتراث الفقهي، وهي تفرقة مهمة في التعامل مع الأطروحات التي تنحو للغلو، وتقيد دور المرأة السياسي منكرة عليها ما كفله الشرع وفعله الرسول منذ فجر الإسلام، فالتراث الفقهي بكل المعايير إنجاز إنساني له شروطه الاجتماعية والثقافية والتاريخية، في حين أن الأصول ثابتة تحفظ للمنظومة المعرفية الإسلامية استقرارها واستمرارها وتجددها. والاطلاع على التراث الفقهي لازم في إغناء المصادر التي نأخذ منها لمعالجة قضايانا الراهنة ومنهجية التعامل مع الواقع، إذ إن الدور الذي يلعبه هذا التراث ليس دورًا هامشيًا بل دور مركزي يدخل في التركيب الحي الذي يشكل الأفراد والأمم نفسيًا واجتماعيًا وثقافيًا، بيد أن التراث لا يدخل كاملا في هذا المركب، إذ تسقط أجزاء منه على جنبات التاريخ، والذي يتبقى هو ذاك الجزء الذي يرتبط بحكم قطعي لا بعرف قبلي، حضريا كان أم بدويا ويؤدي مصلحة أو يعبر عن حاجة، والذي يحقق التواصل والاستمرارية في النهاية هو المنهج الأصولي، وإن اختلفت الاجتهادات باختلاف الزمن.
ويعكس هذا الفصل النظري والمفاهيمي بين الرجال والنساء في الأهلية السياسية غياب الوعي بالتفرقة بين البيعة العينية والبيعة الكفائية من ناحية، وافتراض نقص أهلية المرأة فطريا وجبلة من ناحية ثانية، إذ إن بيعة النساء تتجاوز حدود الطاعة في المعروف لتشمل البيعة على العقيدة أي الالتزام السياسي، وعليها بايع رسول الله نساء الأنصار، والمهاجرات بعد صلح الحديبية، ونساء قريش بعد الفتح على ذلك وهي البيعة الواجبة عينا على كل مسلم ومسلمة دون اختلاف في الصيغة أو تمييز في المسؤولية، كذلك قد تبايع المرأة البيعة الكفائية، وتعد شخصية مثل "نسيبة بنت كعب" نموذجا على هذا الحالة، فقد بايعت الرسول على الجهاد في بيعة العقبة الثانية، وقاتلت في غزوة أحد، ويوم اليمامة، وغزوة خيبر، كما بايعت بيعة الرضوان التي بايع فيها الصحابة رسول الله على الموت، مما يدل على التزامها بالبيعة رغم أنها بيعة كفائية لأن فروض الكفاية على أهلها فروض عين، فلا مجال لمسامحة النساء كما ذهب الرأي سالف الذكر، وهو ما يعني وجوب التزام النساء بالبيعة أيًا كان نوعها، كل امرأة وفق أهليتها، وعدم وجود مجال للمسامحة أو قبول مبدأ "نصف المسؤولية ونصف الحق" كما ذهب التقسيم السابق.
ويرى الدكتور عثمان ضميرية أن بيعة النساء بينت في قول الله تبارك وتعالى "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيم" الممتحنة 12. ولما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم مكة جاءه نساء أهلها يبايعنه فأخذ عليهن: أن لا يشركن.. إلخ. ففي صحيح البخاري (4891) وصحيح مسلم (1866)، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: كانت المؤمنات إذا هاجرن إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُمْتَحَنَّ بقول الله تعالى"يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ" إلى آخر الآية. قالت عائشة: فمن أقر بهذا من المؤمنات فقد أقر بالمحنة. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقررن بذلك من قولهن, قال لهن: "انْطَلِقْنَ فَقَدْ بَايَعْتُكُنَّ"، ولا والله، ما مسَّت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يَدَ امرأة قَطُّ, غير أنه بايعهن بالكلام. قالت عائشة، رضي الله عنها: والله ما أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم على النساء قَطُّ إلا بما أمره الله عز وجل, وما مسَّت كفُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كفَّ امرأة قط, وكان يقول لهن إذا أخذ عليهن: "قَدْ بَايَعْتُكُنَّ". كلامًا. (أي دون مصافحة)، وقالت أم عطية، رضي الله عنها: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- الْمَدِينَةَ جَمَعَ نِسَاءَ الْأَنْصَارِ فِي بَيْتٍ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَقَامَ عَلَى الْبَابِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِنَّ فَرَدَدْنَ السَّلَامَ، فَقَالَ: أَنَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَيْكُنَّ. فَقُلْنَ: مَرْحَبًا بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَرَسُولِهِ. فَقَالَ: تُبَايِعْنَ عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقْنَ وَلَا تَزْنِينَ وَلَا تَقْتُلْنَ أَوْلَادَكُنَّ وَلَا تَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ تَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُنَّ وَأَرْجُلِكُنَّ وَلَا تَعْصِينَ فِي مَعْرُوفٍ. فَقُلْنَ: نَعَمْ. فَمَدَّ عُمَرُ يَدَهُ مِنْ خَارِجِ الْبَابِ، وَمَدَدْنَ أَيْدِيَهُنَّ مِنْ دَاخِلٍ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ. أخرجه أحمد (27309) وأبو داود (1139). فبيعة رجال المسلمين للرسول صلى الله عليه وسلم، كانت بالمصافحة مع الكلام. أما بيعة نسائهم له -صلى الله عليه وسلم- فكانت بالكلام من غير مصافحة. قال النووي في شرح مسلم: إن بيعة النساء بالكلام من غير أخذ كف, وبيعة الرجال بأخذ الكف مع الكلام. وحين تخوف عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، الاختلاف بين المسلمين قال لأبي بكر، رضي الله عنه: ابْسُطْ يَدَكَ يا أبا بكر. فبسطها, فبايعه, ثم بايعه المهاجرون, ثم بايعه الأنصار"، و من هذا نرى أن البيعة ليست مرادفة للانتخابات، فالمسلمون رجالاً و نساء لم ينتخبوا النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما آمنوا بنبوته و رسالته كما آمنوا بالله الذي أرسله، ثم أخذ عليهم العهد، فبايعوه على ذلك كما رأينا في النصوص السابقة. ولا أعلم أن النساء كنَّ يبايعن الخلفاء الراشدين بذلك المعنى، إذ لم يكن ذلك من شأنهن. والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد و على آله وصحبه وسلم.