الاختراعات سهلت الحياة ولكن لم تزد وقت الفراغ
في 21 تشرين الأول (أكتوبر) 1993 أدلى المستشار الألماني هيلموت كول بتصريح حكومي يعارض فيه بحدة مشروع "تقليل عدد ساعات العمل". وحذر هيلموت كول بأن المستقبل لن يمكن تأمينه من خلال تنظيم ألمانيا "منتزه متنوع لقضاء أوقات الفراغ". وقال "أوقات عمل أقل مع تكاليف أجور متصاعدة تؤدي دائما إلى إجازات أكثر: وهذا ليس بشرط لتحسين قدرة بلادنا على المنافسة".
بسبب تصريحه حصد المستشار الألماني في ذلك الوقت انتقادات عديدة من المعارضة ونقابات العمال التي كانت تظن أن تقليل ساعات العمل ستكون مخرجا من البطالة المرتفعة. ولكن التيار غيّر مجراه منذ زمن طويل. صحيح أن نظام العمل "35 ساعة في الأسبوع" والذي ناضلت من أجله النقابات لا يزال موجودا في بعض القطاعات على الورق، ولكن الواقع يبدو شيئا آخر. حيث إن نظام العمل السائد حاليا هو "40 ساعة في الأسبوع" مع الأجر نفسه. ففي عالم تملأه المنافسة الشديدة لن يكمن العلاج فقط في تقليص عدد ساعات العمل.
صورة هيلموت كول عن "منتزه لقضاء وقت الفراغ" لم تختلف كثيرا من ناحية المحتوى عن توقعات أحد خبراء الاقتصاد المعروفين في القرن العشرين: فقبل ما يزيد على 60 عاما، في عام 1930، توقع "جون ماينارد كاينز" في مقال بحث يحمل عنوان "الاحتمالات الاقتصادية لأحفادنا" (Economic Possibilities of Our Grandchildren)، بأن تطورا كبيرا في طاقة العمل الإنتاجية ناجم عن استخدام الآلات وما شابهها خلال الأعوام المائة المقبلة سيؤدي إلى تراجع رهيب في عدد ساعات العمل. وافترض عالم الاقتصاد البريطاني بأن التحدي الأكبر للإنسانية يكمن في قضاء أوقات الفراغ الكثيرة بصورة هادفة.
وعصر الأحفاد الذين ذكرهم "كاينز" بدأ منذ وقت طويل. ففي دراسة أجراها خبيرا الاقتصاد الأمريكيان نيفيل فرانسيس من جامعة "نورث كارولينا" وفاليري رامي من جامعة كاليفورنيا في مدينة سان دييجو، حاول الخبيران أن يتوصلا إلى إذا ما كانت توقعات كاينز قد تحققت فعلا - ربما في الولايات المتحدة على الأقل. وعلى خلاف العديد من الدراسات الأخرى والتي ترمي إلى الهدف نفسه تقريبا، لم يكن موضوع البحث بالنسبة للخبيرين الأمريكيين " من الأعمار القادرة على العمل"، ولكن السكان أجمعهم.
وأحد أسباب هذا التوجه في موضوع الدراسة هو أن تعريف "سن العمل" تغير خلال المائة عام الماضية. على سبيل المثال في عام 1910 كانت نسبة الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين 10 إلى 15 عاما والذين كانوا يعملون بدوام كامل 25 في المائة. وأما اليوم فقد انخفضت النسبة بصورة واضحة، حيث يقضي الأطفال والشباب أوقاتا أكثر بكثير في المدرسة مقارنة بذلك الحين.
وإحدى نقاط الضعف الأخرى في النماذج الاقتصادية التقليدية هي أن تلك النماذج تصنف الوقت إلى فئتين اثنتين فحسب: فئة وقت العمل (في قطاع الاقتصاد الخاص) وفئة وقت الفراغ. ولكي يمكن إلى حد ما فهم التطور الحاصل خلال العقود الماضية، يجب تصنيف الوقت، حسب رأي فرانسيس ورامي، بصورة أدق بعض الشيء. فخبيرا الاقتصاد يميزان أوقات العمل مدفوعة الأجر (بما فيها القطاع العام)، والوقت في الطريق إلى العمل وفي الطريق إلى المنزل، والوقت المستغل في التعليم المدرسي والوقت اللازم لإنجاز الأعمال المنزلية. ولكن الذي يشكل صعوبة بالغة هو تعريف، ماذا يعني فعلا وقت الفراغ. من هذا المنطلق اتفق الخبيران على تعريف وقت الفراغ بأنه "جميع النشاطات التي توفر الاستمتاع بصورة مباشرة للمرء".
ولتصنيف الأنشطة المختلفة يستند الخبيران إلى استطلاع للرأي أجرته جامعة ميريلاند في عام 1985. في هذا الاستطلاع تم استبيان آراء أشخاص عدة لتقييم مدى استمتاعهم أو نفورهم من أنشطة معينة على تدريج من 1 إلى 10. واحتلت الرياضة في المعدل المتوسط كأحد أكثر الأنشطة المرغوبة في أوقات الفراغ 9.2 نقطة، فيما احتل "تنظيف المنزل" مرتبة متدنية جدا حيث وصلت قيمته كهواية إلى 4.9 نقاط. وحصل "اللعب مع الأطفال" في المعدل المتوسط على 8.8 نقطة، فيما حصل "الذهاب مع الأطفال إلى الطبيب" على 4.7 نقاط فقط. ولهذا السبب صنف الخبيران الوقت الذي يقضيه الآباء مع أطفالهم إلى قسمين جزء كوقت فراغ والجزء الآخر كوقت عمل. وحسب تصنيفهم تقع القراءة واللعب مع الأطفال تحت فئة "وقت الفراغ".
ويكشف التحليل بعض الحقائق المفاجئة: على سبيل المثال لم يقل الوقت اللازم للأعمال المنزلية في الفترة ما بين 1912 و 1960، على الرغم من أن عدد العائلات التي كانت تقتني أجهزة كهربائية حديثة في تلك الفترة كان يتزايد باستمرار. وحسب تقديرات، كان غسيل كمية معينة من الملابس باليد يستغرق أربع ساعات، والكي بعد ذلك يستغرق 4,5 ساعة. ومع ظهور الغسالات الحديثة والمكاوي الكهربائية تضاءل وقت الغسيل إلى 41 دقيقة ووقت الكي إلى ساعتين. لهذا، لماذا نحتاج إلى الآن وقتا كثيرا للأعمال المنزلية؟ الجواب: لأن الأعمال المنزلية اليدوية أصبحت اليوم أسهل بالمقارنة مع الماضي، ازدادت في المقابل الأعمال المتطلبة للإنجاز في المنازل. فإذا كانت الملابس النظيفة، والمنزل المهندم والطعام الساخن في الماضي من الرفاهية والفخامة، فهي اليوم تعتبر أمرا منطقيا. وبهذا، فإذا ما بقي الإنسان اليوم على نفس مستوى ذلك الزمان من حيث النظافة والتغذية والصحة، فإنه سيقضى وقتا أقل بالفعل في انجاز الأعمال المنزلية.
ولكن المهم أخيرا وليس آخرا بالنسبة للدراسة التحليلية هو تطور المستوى التعليمي خلال المائة عام الماضية. ففي عام 1900 بلغت النسبة بين جميع الفئات من الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين 14 و17 عاما والذين كانوا في مدارس ثانوية عالية في أمريكا حوالي 10 في المائة، ولكن في عام 2003 كانت النسبة 95 في المائة. وارتفع عدد أيام التدريس - لجميع الأطفال ابتداء من المرحلة التمهيدية - من أقل من 100 يوم إلى أكثر من 160 يوما في السنة الدراسية الواحدة. كما ارتفع أيضا عدد طلاب الكليات الذين تتراوح أعمارهم ما بين 18 إلى 22 عاما بصورة ملموسة، وبالأخص بعد الحرب العالمية الثانية. وهكذا فإن جزءا كبيرا (نحو 70 في المائة) من الوقت الذي كان الشباب والبالغون الشباب يقضونه في ذلك الحين في العمل، يقابله اليوم أوقات أطول في التعليم المدرسي، وبهذا لا يعد من أوقات الفراغ.
وتدفع نتائج أخرى مختلفة منبثقة عن تحليل الخبيرين فرانسي ورامي إلى استنباط نتيجة تخالف افتراضية كاينز: وقت الفراغ لكل أمريكي لم يتغير تغيرا جوهريا في الفترة ما بين 1990 و 2004. ويقدر الخبيران لعام 1900 وقت فراغ لكل فرد في أمريكا يبلغ 6657 ساعة، ولكن لعام 2004 تبلغ عدد ساعات وقت الفراغ التي يقضيها الأمريكي 6634 ساعة. وهذا يعادل نحو 128 ساعة فراغ في الأسبوع. وذكر الخبيران في ختام تحليلهما أن "توقعات كاينز بحدوث تطور سريع في الطاقة الإنتاجية قد تحققت، ولكن ليست تلك التوقعات بفائض في وقت الفراغ - على الأقل ليس في الولايات المتحدة". وحتى في ألمانيا ربما لا يكون لأحد أن يكسب انطباعا بأنه يعيش كل يوم في "منتزه لقضاء وقت الفراغ".